لا أدري ما إذا كان أركان النظام السوري مقتنعون بالتصريحات التي أعلنوها: الأسد يعتبر المشاركة الشعبية الواسعة في “الانتخابات” الأخيرة دليلا على الديمقراطية وعلى قوة القاعدة الشعبية التي يتمتع بها، ويصف الثائرين على نظام الاستبداد بالثيران، فيما قال وزير خارجيته فيصل المقداد إن “الانتخابات” السورية أفضل ألف مرة من الانتخابات الأمريكية.
إننا هنا أمام خطابات تنتمي إلى عالم اللامعقول، فلماذا يلح أصحابها على تبنيها والإسفاف في طرحها بديلا للمعقول؟
إما أن هؤلاء يدركون أن ما يقولونه هو مناف للحق والحقيقة، أو أنهم فعلا مقتنعون بما يقولونه: في الحالة الأولى، ثمة وعي مسبق بضرورة دفع اللامعقول إلى نهايته حتى يتحقق واقعا في الوعي الجمعي لدى العوام من جهة، وتحويله إلى واقع مفروض يُعترف به من قبل بعض الدول الإقليمية والدولية كأمر قائم من جهة ثانية.
يتحول المستبدون مع الوقت إلى النظر لأنفسهم كأنصاف آلهة، فيرون أن وجودهم في القيادة يحقق كل أنواع الازدهار والأمان للشعب، وأن ابتعادهم عن مكانهم سيلحق الخراب والدمار بالبلاد.
مفصلية “الانتخابات”
ليست المهزلة الانتخابية التي جرت تندرج ضمن العملية الديمقراطية لا من قريب ولا من بعيد، وهذا قول فصل يجمع عليه كل عقلاء العالم، إنها عملية لتكريس الاستبداد.
لكن، لا يجب النظر إلى العملية “الانتخابية” الأخيرة من المنظار الديمقراطي والقانوني والثقافي، وإنما يجب النظر إليها من المنظار السياسي الإقليمي ـ الدولي، كما ينظر النظام إليها.
ما عاد النظام السوري بعد سنوات الحرب مهتما بتكريس شرعيته من الناحية القانونية والأيديولوجية، فهذا أمر خارج المفكر فيه على مستوى الداخل السوري، فالناس أخضعوا بقوة السلاح وسطوة الخوف.
ما يهم النظام من إجراء “الانتخابات” الأخيرة، هو توجيه رسائل للغرب بأن ثمة “عملية سياسية” تجري في الداخل السوري بمعزل عن العملية السياسية الأممية، الأولى هي المعطى الحقيقي، أما الثانية فهي مضيعة للوقت ولا طائل منها.
إن تكريس عملية سياسية موازية للعملية الأممية، وإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية كأساس هذه العملية، بغض النظر إن كانت العملية ديمقراطية أم لا، هو هدف بعيد المدى، ولذلك، ينظر النظام للأزمة السورية من منظار السياسة الدولية التي تخضع في نهاية المطاف للمصالح الاستراتيجية، وتاريخ الولايات المتحدة ما يزال ماثلا أمامه، حين دعمت واشنطن وتحالفت مع مستبدين في أنحاء العالم لاعتبارات استراتيجية، إنه يسعى إلى تحقيق القبول على المستوى الإقليمي ـ الدولي، معولا على المتغيرات التي حصلت في البيئة المحلية والإقليمية والدولية، وآخرها انتخاب سوريا لعضوية المجلس التنفيذي لمنظمة الصحة العالمية.
ومع غياب الحزم الدولي، والتراخي الأمريكي لجهة الانفتاح الإقليمي على دمشق، يعمل النظام بهدوء على إحداث خرق في الساحة العربية، باحثا عن الدول التي تريد إنهاء تجربة الثورات العربية وطمسها، وتلك التي تقف في موقف المعاد لتركيا وللإخوان المسلمين، وهي دول وجدت في التراخي الأمريكي فرصة متاحة لبدء الانفتاح التدريجي نحو النظام السوري.
ثمة ثلاث دول مهيئة لمنح النظام السوري شرعية عربية (الإمارات، السعودية، مصر) كل لأسبابه، مدعومين بمحور ثلاثي عربي (العراق، لبنان، الجزائر).
لن تخوض الولايات المتحدة معركة سياسية من أجل ثني هذه الدول عن الانفتاح على النظام لاعتبارات كثيرة، أولها عدم اهتمام إدارة بايدن كثيرا في الملف السوري، حيث يقتصر دورها على التعطيل فقط، أي إنه دور سلبي يتمثل ببقاء العقوبات الاقتصادية على النظام، وثانيا، أن عملية الانفتاح على النظام سياسيا لن تمنحه شرعية دولية، وثالثا، لن يضيف هذا الانفتاح أي جديد، فسوريا لم تعد لاعبا إقليميا يرجى منها شيئا.
بعبارة أخرى، ستسمح الولايات المحدة لدول عربية بهوامش سياسية واقتصادية في التعامل مع النظام السوري، لاعتبارات تخص هذه الدول الحليفة لواشنطن.
بالنسبة للنظام، هذا أمر كاف في هذه المرحلة ولا يتطلع إلى أكثر من ذلك، لأنه بداية الطريق لإنهاء الموقف الدولي المعادي له.
أما الداخل السوري، فقد وصل إلى مرحلة اليأس من التغيير، ولم يعد أمامه سوى الاستسلام لنظام مارس أقوى أشكال العنف والإبادة، وهو مستعد لتقبل الواقع الاقتصادي والاجتماعي المرير، وما الصور التي رأيناها عن الاحتفالات الشعبية في الداخل إلا تعبيرا عن حالة الهزيمة الوجودية.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت