يسقط وزير الداخلية الفاسد.. يسقط وزير العدل الفاسد.. يسقط رئيس فرع الأمن الجنائي في اللاذقية العميد عدنان اليوسف إله الفساد.. هكذا استهل كلمتَه المدعو بسام حسام الدين، قائد ميليشيا “أسود الجبل” وهي من تنظيمات الشبيحة. ولسوء حظ قائد الشبيحة أن تسجيله لم ينل اهتماماً كبيراً، لأنه أعقب الضجة التي أثارتها في الإعلام وعلى وسائل التواصل الاجتماعي الموالية لمى عباس أولاً بتسجيل تحريضي طويل ضد السلطة، ثم بتسجيل يرصد ما تبدو أنها محاولة اعتقال فاشلة لها ليلاً، انسحب في نهايتها عنصر المخابرات لأنه لا يحمل مذكرة إحضار قانونية!
في الأيام القليلة الفاصلة بين التسجيلين، خرج وسيم الأسد ليدلي بمساهمته الشخصية إزاء حالة التذمر السائدة، ورغم القرابة التي تربطه ببشار الأسد إلا أن من الإفراط الشديد في المبالغة اعتباره ناطقاً باسم السلطة. يوبّخ وسيم الأسد أولئك الذين يطالبون “الدولة” في الوقت الذي تحتاج فيه إلى المساعدة، ويطالبهم في المقابل بالذهاب لتحرير آبار النفط، أو الذهاب إلى الأمم المتحدة للمطالبة برفع العقوبات، إلا أن أهم ما يصدر عنه هو قوله: روحوا افلحوا أراضيكم، واعملوا اكتفاء ذاتي مثل ما كان أجدادكم وأجداد أجدادكم يعملوا. فالعبارة الأخيرة، والتي نرجّح أن قدراته لا تؤهله ليتعمد مغزاها، كأنها تقول لموالي الأسد الذين يوصفون عادةً وتلميحاً بأنهم “الحاضنة الاجتماعية” له: عودوا إلى ما كنتم عليه قبل حكم العائلة.
بخلاف وسيم الأسد، كانت لمى عباس قبل عشرة أيام “إثر جلسة استثنائية لمجلس الشعب مخيِّبة لأدنى التوقعات” قد خاطبت السلطة في نهاية كلمتها بالقول: حلّوا عن ربنا.. الشعب بيطلع من أزمته. وذلك بعد العديد من المطالب مثل “أوقفوا الأتاوات.. أوقفوا التشبيح”، عطفاً على توصيف واقع السلطة بالقول: عم يروح السيء يجي الأسوأ. بمعنى انعدام الأمل من تغيير بعض المسؤولين، ليأتي توصيفها الحليف الروسي بالقول: نحنا ما عندنا حليف.. هاد مانو حليف.. هاد دخل لعندك لما غرقت ليستعمرك.. ثالث رابع سنة والساحل عم يحترق.. وبعد الاحتراق عم تنباع الأراضي.. أنا ماني حمارة.. وين الحليف يجي يطفي متل ما طفّى في تركيا وإسرائيل؟
تحدثت لمى عباس عن ثورة، إلا أنها بالتأكيد ليست على غرار ثورة 2011، فقد كانت واضحة في أن “الثورة عمرها ما كانت في الشارع”! لذا أتت مطالبتها بالصحوة العامة ضبابية، تزيد من تشوشها مطالبةُ الجمهور بكلام من نوع: حبُّوا بعض.. نحنا ما رح ينقذنا غير أنو نكون سوريين.. إيد واحدة.. مكوِّن واحد.. إلخ. وقد يُحسب بتسرّعٍ أنها من باب الجرأة تحاشت ذكْر الأسد شخصياً، سلباً أو إيجاباً، بخلاف بسام حسام الدين الذي ذكّر بخدماته للأسد مع الحرص على القول أنه لا يمنّ عليه عندما يذكّر بها، بل يفعل لمجرّد التعريف بنفسه.
نستطيع إجمال آراء المعارضين الذين اهتموا في ما يحدث لدى الموالين بأن المتفائلين جداً يرون في هذا الغضب المعلن دليل ضعف الأسد، ودليلاً على اقتراب موعد ثورة الموالين عليه. بينما يستبعد الأقل تفاؤلاً حدوث ثورة في المدى المنظور، لأن “الحاضنة الاجتماعية” للأسد يتوقف نقدها وتذمّرها عند مسؤولين حكوميين تُرمى عليهم تهم الفساد وتدهور المعيشة، من دون مجرد التفكير في نقد حلقة الأسد الضيقة أو تنظيماته العسكرية والمخابراتية. ولعل الشريحة الأوسع بين المعارضين هي التي لا ينتظر أصحابها جديداً حقيقياً من الموالين، لكنهم مبتهجون بهذه التسجيلات على مبدأ: فخّار يكسّر بعضه.
وإذ نميل أيضاً إلى الاعتقاد بأن ما يحدث ليس تباشير ثورة للموالين، فهذا ينبغي ألا يغلق باب فهم التغيرات لدى قاعدة الأسد، وهي تغيّرات ربما لا يكون هناك نكوص عنها في المدى المنظور. وعلى هذا الصعيد يكون ذا دلالة عميقة صدورُ هذا المستوى من النقد عن زعيم للشبيحة، وعن امرأة تباهت بأنها هي التي اعتدت بالضرب على الفنانة الراحلة مي سكاف أثناء مشاركة مي في مظاهرة في دمشق عام 2011، والعودة إلى حساب لمى عباس على الفيسبوك تُظهر بلا لبس دفاعها عن شبيحة ما يُسمّى “الدفاع الوطني” وسواهم من ماكينة القتل الأسدية.
أي أن الذين رفعوا ويرفعون أصواتهم هم مشاركون فعليون في حرب الأسد على الثورة، ويجب الانتباه جيداً إلى أن نقمتهم تنطلق من هنا، من كونهم يرون أنفسهم شركاء لا تليق بهم المهانة التي أوصلهم إليها. ربما يكون بسام حسام الدين قد أشرف على تعذيب معارضٍ وهو يقول له: مين ربّك ولاه. لإجباره على القول أن بشار هو الرب، وربما دبكت لمى عباس وهي تهتف مع أمثالها هتاف الموالين الموجّه إلى بشار في أول الثورة: مطرح ما بتدوس منركع ونبوس. والتذكير بما فعله أمثال الاثنين لا يأتي من باب الشماتة بما وصلا إليه؛ الغاية هي التدليل على الفرق بين ما يمثّلون وبين عموم السوريين، والذي نختصره بالفرق بين العبودية المختارة والعبودية القسرية.
هناك فصل عنصري في العقل الموالي، بموجبه يكون عموم السوريين عبيداً ينبغي عليهم قبول عبوديتهم قسراً، بينما يرى الموالي نفسه عبداً في مرتبة أعلى لأنه اختار عبوديته عن قناعة ورضا تامَّيْن. هو، على ذلك، لا يرى نفسه شريكاً للسيد، بل يعتقد بأحقيته بمعاملة تفضيلية على أولئك المرغمين على عبوديتهم. بهذا المعنى لا يكون استثناء الأسد من النقد مدفوعاً بالخوف فقط، بل هو مستثنى لأنه السيد في هذا العقل، وتناوله بالنقد يؤذِن بالخروج نهائياً من العبودية المختارة إلى القسرية. بهذا المعنى أيضاً، ثمة مسافة يتوجب قطْعها في العقل، ومن المرجّح أن يكون هذا شاقّاً، قبل الشروع في ثورة الموالي على الأسد، مع التنويه بأن الأخير لا يقيم الفصل نفسه، ويرى جميع محكوميه عبيداً على قدم المساواة.
يجدر التذكير أيضاً بأن ماكينة الأسد الإعلامية، وهو شخصياً، واظبا على الإيحاء بأنه يفضِّل أولئك المتحمّسين لعبوديتهم، ثم تراجعت الإيحاءات بدءاً من تعاظم دور الميليشيات الإيرانية وصولاً إلى التدخل العسكري الروسي. هنا يمكن أن نفهم على نحو أفضل ما اقتبسناه من أقوال لمى عباس عن الحليف الروسي، وجزء منه بضمير المخاطب الذي لا يصلح سوى أن يكون موجَّهاً إلى بشار شخصياً. ترجمة القول أن الروسي أتى طامعاً، وأن الإيراني يشعل الحرائق ليأتي ويشتري الأراضي المحروقة. هؤلاء هم الحلفاء الذين يستقوي بهم المخاطَب، والذين لا همّ لهم سوى مصالحهم، بخلاف الموالين الذين دافعوا عنه. وعندما نشرح كلام لمى عباس نأخذ في الحسبان أن نحذر التورط في اعتبار كل ما يُقال واعياً ومتعمّداً، لكن من الخطأ أيضاً التعاطي مع ما يُقال بوصفه لغواً حتى إذا لم يكن متعمداً، ثم إن من آداب العتاب أن يكون موارباً لطيفاً كما كان عنصر المخابرات الذي انسحب لأنه لم يأتِ بمذكّرة إحضار.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت