المفوض الساميّ. غازي كنعان روسيا في دمشق. مبعوث بوتين والاستخبارات ورجال أعمال الكرملين. صفات متعدّدة أُطلقت على المفوض الذي كان سفيراً. هو تأويل صائب للتحوّل، وإلّا لظلَّ السفير سفيراً! يحاجج بعضهم بأن ذلك أضغاث أحلام؛ فروسيا لن تتخلى عن بشار الأسد، وكفاكم مغالاةً في الأوهام. هذا التفكير هو الخيالي بامتياز، حيث يقلّل من شأن تغيير الصفة، وكذلك من عدم ملاحظة التغيّرات في الواقع، وأيضاً لا يقرأ السياسة إلا من أفواه جناحٍ يكذب، طوال الوقت، وأن روسيا لن تغيّر النظام، بينما الحقيقة أن روسيا لم تعد تعتبره نظاماً؛ فهو بالنسبة لها أداة بيدها، وإلّا فكيف أسقطت عنه المساواة معها، أي بين النظامين، السوري والروسي، وهذا منذ أكثر من عامين. الجديد هذا علينا قراءته بدقة، وحتى التسمية الروسية له تشي بذلك، فهو “لتطوير العلاقات مع سورية”. إذا هناك علاقات مربكة، ومتأزمة، ووصلت إلى حدٍ تتطلب فيه التغيير. نضيف هنا أن روسيا اختطت للنظام بدائل عن بيان جنيف في العام 2012، وحتى قرار مجلس الأمن 2254 حاولت تجنبه، وكانت بدائلها تفاهمات أستانة وسوتشي واللجنة الدستورية، مكملة للحرب منذ العام 2015، ولكن ذلك كله لم يدفع النظام إلى تغيير سياسته، ولم يبد أي إصلاحٍ، ولم يوقف آليات الفساد، ولم يتقدم بمشروعٍ ما، يسعف الروس.
يقاتل الروس معه، وعلى الجبهات كافة؛ دبلوماسيّاً، عسكريّاً، اقتصاديّاً، وحتى سياسيّاً. فعلوا ذلك كله، وهم يأملون تغيير المشهد السياسي السوري، والمشهد الدولي المتعلق بسورية؛ وعكس ذلك يتمّ، فدولياً ضَبَطت أميركا المشهد العالمي، فلا يُسمح بتعويم النظام السوري قبل إحداث تغييرٍ فيه وقبوله بحلٍّ سياسيٍّ يستوعب المعارضة، وطرد إيران. وإقليمياً، لم تطرد روسيا ومعها النظام إيران، ولم يستطيعا تهميش تركيا، بل أصبحت موجودة عسكرياً في أكثر من منطقة في سورية. أكثر من ذلك، تجاوز وجودها هذا دعمها فصائل مسلحة سوريّة، تآمرت هي مع روسيا عليها وأخرجتها من كل سورية باسم خفض مناطق التصعيد، والآن تشرف على إرسال بعضها إلى ليبيا، وتفعل روسيا هذا مع بعضها الآخر! المقصد هنا أن روسيا غيّرت الواقع الميداني لصالح النظام، ولكن ذلك لم يدفعه إلى تغييرٍ ما، ولهذا وجدناه يرفض أفكار اللجنة الدستورية المشكلة روسيّا، وشن أعوانه أخيرا (خالد العبود وبهجت سليمان وسواهما) حملات “تافهة” ضد روسيا، بل وهدّدوا الرئيس بوتين!
روسيا المحكومة بنظامٍ مافياوي استخباراتي تقرأ ملامح المشهد السوري كلها، وتذلّ النظام بأكثر من شكلٍ وطريقة، وتتعامل معه، في أحيان كثيرة، وكأنّه جهة مساوية لفصيل مسلح هامشي، كما يجري في درعا، حيث تجبر أجهزة أمنه على الجلوس مع ممثلين عن فصائل عسكرية. روسيا التي رفضت الدول الكبرى على خططها لشرعنة النظام السوري، وأعطت لتركيا مناطق واسعة، وتراقب تفكك عائلات السلطة، وشراسة بعضها وشراهتها لحيازة ثروات سورية، وتتهرّب هذه من دفع الديون لها، روسيا هذه، بخطوتها الأخيرة، تعلن سياسة جديدة. سياسة تنطلق من أنها أصبحت المتحكّمة في سورية، وبدء مرحلة التفاوض على مستقبل الحكم هناك.
لن تكتفي روسيا من “تخليص” إيران بعض المشاريع الاقتصادية، وستواصل تهميش دور هذا البلد في سورية، وهذا باتفاقٍ مع إسرائيل وأميركا وربما تركيا. وفيما يتعلق بأميركا، ليس أمام الروس إلّا التفاوض على شرق سورية، حيث النفط والثروات. وبما يخص النظام، ستعمل موسكو على التدقيق أكثر فأكثر في كل سياساته الاقتصادية والعسكرية والأمنية. المبعوث الآن ليس سفيراً، وتسميته الجديدة لا تشبه تسمية دولة أخرى لسفراء فوق العادة أو مبعوثين، حيث تجب قراءة ذلك وفقاً للمشهد أعلاه، ولحجم التدخل الروسي الذي أصبح احتلالاً، ولم يعد تدخلاً أو تحالفاً وسوى ذلك. روسيا بذلك ستتجه نحو سياسة جديدة، لا نعرف خطوطها الدقيقة، ولكنها بالتأكيد، تجاوزت مرحلة تهميش النظام، والبحث في مرحلة التفاوض على مستقبله.
عدا ما حاججت به؛ هناك ما يشبه الإجماع في التحليل للوضع السوري أنه لم يعد قابلاً للاستدامة؛ فاقتصادياً تدهور الوضع بشكلٍ مهول في الأشهر الأخيرة، وسياسياً، تتفكك عائلات السلطة التي بدونها لن تصمد طويلاً، وخزينة الدولة مفلسة بالكامل، والنظام ليس في مرحلة محاربة الفساد، فهو قائم على الفساد، وأيديولوجياً، لم تعد تفيده سوالفه عن حماية الأقليات، والإرهاب السني، وعدم وجود بديل عنه، والسيادة الوطنية، والمقاومة والممانعة. أيضاً، اجتماعياً، هناك تفكّك في حاضنته الاجتماعية، وهذا بتأثير الغلاء الشديد، والتفكّك في عائلات السلطة، والذي أصبح معلناً، وصار الحديث يتناول “نحن نموت جوعاً، وأنتم تختلفون على مليارات الدولارات”. وهناك قضايا دولية تتعلق بأكثر من ملف “جرائم حرب، المسؤولية عن استخدام الأسلحة الكيميائية”، وكلّها، تغلق نوافذ تعويم النظام.
روسيا أمام مشهد معقد للغاية، ولا يشبه الموقف في أبخازيا أو حتى أوكرانيا، وهناك العقوبات التي تحاصرها، وجائحة كورونا وانخفاض أسعار النفط والوضع الاقتصادي والاجتماعي المتدهور بداخلها؛ روسيا العنيدة هذه لم يعد لها أية مصلحة في بقاء النظام الحالي، والأخير لا يعي ضرورة أن يبدأ الإصلاح كما نوّهت، وبالتالي هي أمام مأزق حقيقيٍّ، فإمّا الاستمرار في سياساتها القديمة، وعدم التفاوض على النظام، وسيفضي ذلك إلى إخفاقها، حيث انتهت الحرب، والآن تتسلم تركيا وأميركا مناطق واسعة، وحربها الفعلية تتمّ مع إيران! وإمّا تتجه، وبذاكرتها تجربة إخفاقها في أفغانستان وأميركا في العراق، وتتفاوض مع الدول المحتلة والمتدخلة في سورية.
إذاً، كثيرة هي الأسباب التي تدفع إلى تحميل مبعوث روسيا مهماتٍ جديدة، سيما أن روسيا لم تعد قادرةً على تسنيد أرجل النظام الذي شاخ طويلاً. حالة المعارضة السوريّة والثورة والفصائل المسلحة تشبه أوضاع النظام في تفككها، وضعفها، وتبعيتها، وارتزاقها. هذا أسوأ مما يحدث لسورية؛ فلا النظام يبدي أيّ حسٍ وطنيٍّ لما أصبح عليه هو والبلاد، ولا المعارضة أيضاً. ولهذا، ليس من تغييرٍ سوريٍّ سوريٍّ كما يشتهي بعضهم، ونتمنى معه في الوقت الراهن خارج التوافقات الإقليمية والدولية، فهل تعي روسيا اللحظة الراهنة للوضع السوري؟
أغلب الظن، سنرى سياسة روسية جديدة بما يخص سورية.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت