لاشك أن الحدث الأبرز الذي أعلن عن نهاية الحرب بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية على أرض فيتنام كان سقوط مدينة سايغون في جنوب فيتنام بعد 19 عاماً وخمسة شهور من الصراع بين فيتنام الشمالي وفيتنام الجنوبي، تعرضت سايغون التي كانت عاصمة جمهورية فيتنام الجنوبية لهجوم عسكري بقيادة قائد قوات فيتنام الشمالية العقيد نغوين توان في 29 من شهر أبريل عام 1975 ، حيث قامت 15 فرقة من قوات فيتنام الشمالية “الفييتكونغ” المدعومون من قبل الاتحاد السوفييتي “السابق” والصين بالهجوم على عاصمة الجنوب سايغون وراء دبابات ت-54 وت-56 سوفييتية الصنع وسقطت العاصمة سايغون بعد عملية الإجلاء للقوات الأميركية والمسؤولين من الحكومة الفيتنامية الجنوبية بوساطة طائرات مروحية وترك الآلاف من الفيتناميين يواجهون مصيرهم بأنفسهم وباتت تسمية المدينة اليوم مدينة “هوشي منه” رئيس فيتنام الشمالية المنتصر.
إن المسألة السورية التي تشهد حرباً باردة جداً بين الروس والأميركان مع حلفاء كل طرف على الأرض السورية تسير ببطء شديد، والطرفان يبدوان بحال أفضل مما كانوا عليه في فيتنام، وليسوا في عجلة من أمرهم، حيث حددوا قواعد الاشتباك سلفاً أن تكون حصراً في الساحة السياسية والإعلامية على أرض الأمم المتحدة.
يقوم المندوبان الروسي والأميركي بأشبه ما يكون بمرافعات قانونية لضرورات إعلامية بتدبيج الخطب لدعم موقفيهما من أجل جمع الإعجابات (اللايكات!) حيث يقوم ممثل الولايات المتحدة في الأمم المتحدة بخطب عصماء لا تبقي ولا تذر! تكشف عورات الروس في مجال حقوق الإنسان! بينما يتنطع الممثل الروسي ليؤكد للعالم أن القانون و”سيادة الدول” مقدمة على حياة البشر ولو كلّف ذلك ملايين المذابح التي تقدم رخيصة قرباناً لسيادة “الدولة العتيدة”! وتنتهي هذه المرافعات ومعها 16 فيتو روسياً بفوز الروس أممياً، بينما يقوم الأميركان بتعزية السوريين كونهم “أصدقاء الشعب السوري” عقب خسارة السوريين في أروقة الأمم المتحدة، وينتهي يوم آخر من حكاية الشعب السوري المظلوم!
أصدر مجلس الأمن القرار 2165 في عام 2014 والذي يسمح بإدخال المساعدات الإنسانية إلى سوريا عبر أربع نقاط حدودية، اثنتان منها في تركيا (باب السلام وباب الهوى) وواحدة عبر الأردن (معبر الرمثا) وواحدة عن طريق العراق (معبر اليعربية)، وانتهى مفعول القرار في 11 من كانون الثاني/يناير 2020.
بالطبع تداعى طرفا الصراع الدوليين على اللعب بورقة المعابر – دون السعي الحقيقي لحل الأزمة السورية بشكل سياسي حقيقي – وبينما كان الطرف الأميركي يسعى إلى زيادة عدد المعابر من أربعة إلى خمسة من خلال استحداث نقطة حدودية جديدة عبر تركيا، تصدى الجانب الروسي لذلك الطرح، بل على العكس قام بتخفيض عدد المعابر إلى اثنين وبخفض مدة التمديد من عام إلى ستة أشهر! وانتهت المرافعات في ردهات “محكمة الأمم المتحدة” وبذلك انتصر الروس “قانونياً” وانتصر الأميركان إعلامياً على اعتبارهم أنصاراً للشعب السوري المظلوم، وخسر الشعب السوري المتفرج على هذه المبارزة القانونية “الممتعة”! وتم تحديد 10 يناير كانون الأول 2021 يوم استئناف هذه المرافعات “الرائعة” بين الطرفين الروسي والأميركي من أجل قضية العصر “المعابر الإنسانية” وتنتهي بصورة الأميركي الذي ليس له حول ولا قوة أمام قوة “القانون” في الأمم المتحدة مع انتصار إعلامي حول “التعاطف” مع الشعب السوري، وانتصار الروس “قانونياً” وبذلك انتصر الطرفان مرة أخرى، وخسر السوريون، حيث تم الاتفاق على الاكتفاء ب “معبر باب الهوى” ولمدة ستة أشهر وتمديد الفقرتين 2 و3 من القرار 2165 (2014).
معبر باب الهوى بات المتنفس الإغاثي الوحيد الذي دخلته 10412 شاحنة محملة بالمواد الإغاثية تحوي ما يعادل 228 طنا في عام 2020 يُعدّ الأمل الإنساني الوحيد لأكثر من 1039 مخيماً داخل الأراضي السورية وملايين السوريين في المناطق خارج سيطرة النظام.
في كل مرة وللضرورات الإعلامية تؤكد الأمم المتحدة على “الالتزام” بـ “سيادة سوريا”! و”استقلالها”! و”وحدتها” و”سلامة أراضيها”! طبعاً واضح أن سوريا بلا سيادة ولا استقلال وعليها جيوش دول العالم، ولاهي موحدة، بل هي مقسمة على الأقل لثلاثة مناطق نفوذ روسي أميركي تركي ولكلٍّ حلفاؤه، ولكن لا بأس لأن قسم “الإخراج” في الأمم المتحدة لا يستطيع إصدار أي قرار دون كليشهات “مفيدة” لتبرير التخلي عن المسؤولية الإنسانية والسياسية الحقيقية، من باب رفع العتب اللطيف، الذي سيُستخدم لاحقاً للتعبير عن “القلق” و”التحذير من مغبة” الكارثة الإنسانية” فيما تبقى من سوريا!
لا شك أن الأمم المتحدة “متمسكة” بالقوانين الورقية المكتوبة أشد التمسك! وهي تقريباً تعترف بأن كل القرارات التالية لم يطبق منها ولا حرف! ولكنها ورقياً لطيفة و”ممتعة” قانونياً لذلك هي توردها في نص قرار “معبر باب الهوى” حيث يشير القرار إلى القرارات المهملة التالية: 2042 (2012) و 2118 (2013) و 2139 (2014) و 2165 (2014) و 2175 (2014)، و 2191 (2014)، و 2209 (2015)، و 2235 (2015)، و 2254 (2015)، و 2258 (2015)، و 2268 (2016)، و 2286 (2016)، و 2332 (2016) ، و2336 (2016)، و 2393 (2017)، و 2401 (2018)، و 2449 (2018) إضافة إلى سبعة بيانات رئيسة…هذه “المذبحة القانونية” التي راح ضحيتها 17 قرارا وسبعة بيانات رئاسية تشكل بمنزلة “حرب قانونية أممية باردة جداً” بين الروس والأميركان في المسألة السورية، وتؤكد على حقيقة واحدة أنه لا توجد دولة مدعومة من أحد أعضاء مجلس الأمن تعبأ بقرارات الأمم المتحدة، وأن الفائدة الوحيدة منها هي توظيف الموظفين والمترجمين وخلق فرص عمل لهم ولمساعديهم إضافة طبعاً إلى تقديم مادة إعلامية لوكالات الأنباء!.
لن تكلّف أميركا نفسها عناء الوقوف عملياً إلى نصرة الشعب السوري بشكل عملي حيث إنها والأمم المتحدة تعلمان أن هنالك أكثر من 11 مليون سوري هم بحاجة للمساعدة الإنسانية، ولم تبقِ لهم المرافعات القانونية على مدار عشر سنوات سوى الآلية الإغاثية العابرة للحدود لتلبية حاجاتهم عبر شريان إغاثي يتيم وهو معبر باب الهوى الذي سيكون موضوع معركة قانونية جديدة خلال أقل من ثلاثين يوماً في أروقة “العدالة” في الأمم المتحدة.
أثمّنُ عالياً الروح الإنسانية للسيد بلينكن وزير الخارجية الأميركي حيث قال في جلسة لمجلس الأمن حول سوريا في 29 من آذار/ مارس 2021 فيما يخص المعابر الإنسانية: “كيف من الممكن ألا نجد في قلوبنا قيماً إنسانية مشتركة من أجل القيام بفعل ذي معنى؟ انظروا في قلوبكم. يجب علينا أن نجد طريقة لعمل شيء ما. للقيام بأمر ومساعدة الناس. هذه مسؤوليتنا، وعار علينا إن لم نفعل ذلك” ولكن هذه الروح الإنسانية يجب أن تُترجم إلى فعل سياسي وإنقاذ حقيقي للشعب السوري بالعمل مع الروس للخروج من هذه الكارثة حتى لا تتحول تلك الكلمات إلى مجرد مرافعات “إنسانية” تكون مادة دسمة إعلامياً!
هل ستقوم الولايات المتحدة بتمثيل دور “المغلوب على أمره” مرة أخرى، ويضع الروس يدهم على معبر باب الهوى، ويغادر الأميركان “أروقة” الأمم المتحدة كما حدث في سايغون فيتنام 1975، ويُترك السوريون يواجهون مصيرهم بأنفسهم مع النظام السوري وحلفائه؟ بينما لا يكلّف الولايات المتحدة سوى وضع علمها على معبر باب الهوى لتأمينه، والسعي الحثيث للوصول إلى صفقة سريعة مع الروس خلال أقل من شهر قبل أن نشهد “سايغون” سوريا!
هل يقوم بلينكن برفع العلم الأميركي على معبر باب الهوى لتكون محمية أميركية بالتفاهم مع الأتراك؟ أم هل يقوم السيد بلينكن بمساعٍ مكوكية حقيقية مع الروس للوصول إلى صفقة سياسية تنهي الكارثة السورية بعيداً عن “الرومانس” وعن أروقة الأمم المتحدة التي شهدت إضاعة الوقت في تدبيج 17 قرارا أمميا لا يسمن ولا يغني من جوع!
أتمنى ألا يدشنّ “بلينكن” سقوط “سايغون” السورية ويُسجّل التاريخ أن إبادة وتجويع 11 مليون سوري كان في عهده لتقاعسه عن الإتيان باتفاق مع تركيا لرفع علمه على المعبر، أو لأنه تعامل ببرود حيال المسألة السورية وإنهاء الصفقة الأميركية الروسية على عجل، وكما قال في خطابه الأممي ” هذه مسؤوليتنا، وعار علينا إن لم نفعل ذلك”!
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت