رغم كونها الذكرى الحادة والعشرين لموته، قبل يومين، حضر حافظ الأسد على صفحات الموالين السوريين، وربما لم يكن حضوره أقل في صفحات المعارضين. من جهة الموالين لم يمت حافظ، هو أشبه بالنائم، هكذا تستعير صفحة موالية قصيدة لطلال حيدر يقول فيها: لمّا الأسد بينام بتتيتم الأيام.. بتقرا ع حالا الفاتحة.. بتقلك عليك السلام. ولا جديد في أن يأتي الموالون بأقوال أو أشعار لغير السوريين تعوّض النقص في عدّتهم اللغوية والبلاغية، وتمنح فقيدهم بعداً يتخطى سوريته. من جهة معارضيه لم يمت حافظ، ولن يموت ما دام ابنه “أو أي فرد من عائلته” في سدة الرئاسة؛ هذا سبب بسيط وواضح ومُتفق عليه.
وللذكرى في هذه السنة خصوصية لدى الموالين لتزامنها مع نبش رفعت الأسد، الشقيق اللدود، ومع التأكيد على استحضاره بإرساله تهنئة لبشار بفوزه في انتخاباته بعد المشاركة في الاقتراع في باريس. مَن كان على وشك الانقلاب على أخيه ها هو اليوم يبايع ابن الأخ، وكأنها عودة الأخ الأصغر “وهي بمثابة عودة الابن الضال” إلى كنف الشقيق الأكبر من خلال ابنه. استحضار رفعت، فوق ما يمثّله من شحنة دعم عائلية، هو استحضار غير مباشر لحافظ الأسد “النائم”، فالمصالحة بمعناها البسيط القريب تحدث بين الأحياء.
أمثال حافظ لا يموتون ميتة طبيعية، هم يُقتلون. في المعنى المباشر شهدنا مقتل العديد من رؤساء المنطقة الذين صعد نجمهم في سبعينات القرن الفائت، أنور السادات، صدام حسين، معمر القذافي، علي عبدالله صالح. نجاة حافظ من مصير أقرانه خلّفت حسرة لدى شرائح واسعة من السوريين، وحتى الذين تمنوا لو بقي حياً وأُتيحت لهم محاكمته يرون في المحاكمة عقاباً أشد من القتل. لغاية وفاته بعد حكمه لثلاثة عقود، تراكمت أجيال من سوريين يرجون الخلاص منه، ومن سوريين مهزومين أمامه بمعركة أو من دونها. موته، وقدرته على توريث الحكم والوحشية معاً، جعلت تلك الوفاة أبعد ما تكون عن الخلاص المرتجى.
كانت لدى البعض آمال “للدقة هي أوهام” تتعلق بقيام بشار بقتل أبيه رمزياً، أي من خلال إصلاحات تمس الجوهر المخابراتي العسكري للحكم. التلويح بتلك الكذبة بدأ في حياة الأب، ومن المحتمل أن تكون هناك وعود قُطعت للخارج الذي راح ينتظر الابن، طبيب العيون الذي درس في الغرب. في العقد الثاني من حكمه، ستتأكد رغبة بشار في قتل أبيه، إنما على الضد من المعنى الأول.
يمكن العثور على تسجيلات عديدة من بدء الثورة، ينشد فيها معاً آلاف من السوريين “يلعن روحك يا حافظ” ملحّنةً كأنهم كورال وكأن الجملة مقطع من سيمفونية اعتادوا عليها، أو بالأحرى كانت مدفونة في نفوسهم. راحت تماثيله “المنتشرة في المدن الكبرى والصغرى والبلدات وصولاً إلى بعض القرى” تُهاجم وتُشوَّه أو تُحطّم، ذلك كان ضرباً من القتل بمفعول رجعي، بل بدت الثورة كما لو كانت في المقام الأول استدراكاً لثورة لم تحدث في عهد الأب أكثر من كونها ثورة على الابن، وكما لو أنها تصحح خطأ القدر الذي أتاح له ميتة طبيعية بعدما استهلكته الأمراض.
على المستوى الدلالي ذاته، بادر الابن إلى إعادة تماثيل أبيه إلى العديد من المدن التي استرد السيطرة عليها، رغم أنه في استخدام الوحشية المفرطة إزاء الثائرين كان يسعى إلى قتل أبيه بالتغلب عليه دمويةً. يجوز القول أن الابن عالق بين تجاوز أبيه، كما فعل إبادةً وتدميراً وتهجيراً، وبين حاجته التي ما تزال قائمة إلى الدعم من صورة أبيه في أذهان مواليه. الثمن الباهظ الذي دفعه الموالي يخفّض من قيمة “انتصارات” الابن، وصورة الأب بقيت محتفظة بالاستقلالية والسيادة فضلاً عن نسيان العديد من “موبقاته” بحكم الزمن والموت.
لطالما شعر الثائرون ضد الأسد بالغبن والاستياء من نقدٍ رأى في المنتفضين على الأسد شيئاً من الأسدية أو البعثية، خاصة لما كانت غاية بعض النقد الحكم بحتمية فشل الثورة. لكن لن تتأخر مقولة في التسرب بين أوساط الثائرين، مفادها أن أية ثورة لا بد أن تحمل من خصائص النظام الذي تنقلب عليه. هذه المقولة بدأت دفاعية في مواجهة النقد المذكور سابقاً، ثم استمرت لتسويغ الأخطاء والخطايا بردّها على مؤثرات الزمن السابق، المؤثرات التي كان يتعذر التحدث فيها لأنه يعتبر ترفاً ضمن ظروف المعركة. يُشار أحياناً فقط إلى منشقين كبار لم يقدّموا مراجعات تخص دورهم ومسؤولياتهم السابقة، بينما لا تبدو المراجعة مطلوبة من مئات الألوف أو ملايين الذين انتفضوا بعد عقود من الصمت المبرر بداعي الخوف، والمقصود بالمراجعة هنا مجموع المراجعات الذاتية التي نلمس نتيجتها في طبيعة المواقف السياسية وطرائق التفكير وأشكال التعبير عنها.
لم يتواصل مشروع قتل حافظ الأسد، فبعد الشروع العام الحماسي في الانقضاض عليه أتت معارضة فيها ما فيها من أسدية التهافت على السلطة وطرائق ممارستها، من دون التطرق إلى ما هو متصل بالتبعية أو الارتزاق. هذا النكوص مغاير تماماً للاقتراحات التي قدّمها شباب الثورة في البداية، على مستوى التنظيم، وعلى مستوى الإعلام، وعلى مستوى الفنون البصرية، والتي كانت مفارقة لزمن حافظ الأسد وفيها مقتله بالخروج عن تأثيرات حكمه المباشرة وغير المباشرة.
وأن يحضر حافظ على ضفتي الموالاة والمعارضة بعد إحدى وعشرين سنة من وفاته فهذه دلالة فاقعة على الفشل، إذ نفترض أصلاً نشوء جيلين لم يؤثر في أبنائهما وجوده المباشر على قيد الحياة، إذا لم نضف إليهما جيلاً لم يعاصر سوى سنوات مرضه وتحضير ابنه لوراثته. نضيف إلى ما سبق انقضاء نصف المدة منذ انطلاق الثورة وما تلاها، وهي بمجملها أحداث عاصفة ومؤثرة على مستقبل سوريا ككل، المستقبل الذي ينأى بتسارع عما أرساه الأسد الأب. حضور حافظ في جهة الثائرين عليه يعني أنهم لم يتمكنوا من قتله، لا لأنهم لم يتمكنوا من إسقاط ابنه فحسب، وإنما لأنهم فشلوا كجماعة في بناء منظومة تتجاوز الإرث الأسدي. أما في جهة الموالين فالفشل يتجلى في الحاجة المتجددة إلى الحماية من ذلك الأب، رغم أنه هو الذي خلّف الفشل الذي يعيشونه اليوم، وهو الذي أورثهم تركة ملأى بالأحقاد وما يتصل بها من مخاوف. قد يعود كل من الطرفين إلى اجترار الفشل بعد عام من الآن، في الذكرى ذاتها، لا شيء سيتغير ما لم يبادر كل طرف “لأسبابه ولمصلحته” إلى قتله، فأمثاله لا يموتون ميتة طبيعية ولو تفسخت تركتهم من شدة الموت.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت