ازدادت في الآونة الأخيرة وتيرة الكتابات والدراسات والبيانات التي تناولت الوطنية السورية، واتسم بعضها بالتعميم الشديد، وبعضها الآخر حاول التخصيص ضمن معطيات الوضع الراهن المرهق بحالات التشظي والانقسام على أرض الواقع، حيث يتوزع السوريون بين ثلاث مناطق تتحكم بها سلطات الأمر الواقع، بما فيها المناطق التي يسيطر عليها نظام الأسد، إلى جانب تناثر ملايين السوريين لاجئين ومهاجرين في بلدان الشتات.
وليس المجال هنا للإشادة أو للتقليل من شأن ما صدر عن الوطنية السورية، لكن المفارق هو أن يطرح سوريون كثر على أنفسهم سؤال الوطنية والهوية، بعد انقضاء أكثر من عشر سنوات على انطلاق ثورتهم وأكثر من 75 عاماً على جلاء المستعمر الفرنسي عن بلادهم، بحثاً عن إجابات قد تحمل وعوداً وآمالاً جديدة، وفي وقت أضحت فيه سوريتهم عرضة للتآكل والتشظي، نتيجة انقسامات ومشادات وصراعات ورهانات مختلفة، أحدثت شروخاً وتمزقات وانشطارات في الانتماء بين مكونات النسيج السوري، لدرجة أن أسئلة كثيرة باتت تطاول مفهوم هويتهم وأسباب تأزمها، وماهية الممكنات التي سيعاد عليها بناء وطنية سورية جديدة، وطبيعة مكوناتها ومركباتها، وسوى ذلك كثير.
ويبدو أن سؤال الوطنية السورية يشي بأنها لم تكن صلبة في يوم من الأيام، منذ الإعلان عن تشكيل الدولة السورية بعد الجلاء الفرنسي، مروراً بما كان يسمى “الدولة الوطنية” أو دولة ما بعد الاستعمار، ووصولاً إلى الثورة السورية في 2011 وما بعدها، بل ويذهب بعضهم إلى القول بأنها كانت متحققة بالقوة والقسر وليس بالفعل، ثم جاءت الثورة السورية كي تكشف الغطاء عنها، فظهرت أزمتها وهشاشتها للعيان، مع أن الثورة شكلت مناسبة غير مسبوقة لوضع اللبنات الأولى لإعادة تشكيل الوطنية السورية من جديد، على أسس الاجماع الوطني العام للخلاص من استبداد نظام الأسد، ووفق المبادئ والقيم كانت تنادي به شعارات ومطالب شباب وشابات الثورة في مرحلتها السلمية، والتي كان يحذوها طموح بأن تكون سوريا وطناً نهائياً لجميع السوريين بمختلف تكويناتهم وانتماءاتهم، بناء على قيم الحرية والمواطنة والكرامة وسواها، وبضرورة إعادة تشكيل الوطنية السورية وفق مصالح السوريين وإرادة العيش المشترك لديهم، لكن الذي حدث بعد أن ضاعت الفرضة تماماً، وأُخرِجت الثورة عن مسارها السلمي لينتهي الأمر إلى مزيد من التشظي والتفتت الكارثي.
غير أن الأزمة التي اعترت الوطنية السورية ليست وليد المرحلة الراهنة، ذلك أن الدولة السورية لم تتشكل نتيجة سيرورة اجتماعية واقتصادية تكاملية نابعة من حاجات ومصالح ورغبات الناس في الداخل، بل كانت بدرجة كبيرة نتيجة سياسة تفكيك مفروضة من قوى الخارج الاستعمارية، لذلك اعتبر نزيه الأيوبي أن سوريا انبثقت بوصفها “فضالة دولة” أو “كدولة راسبة” من سوريا الطبيعية أو سوريا الكبرى أو بلاد الشام، ولم يترافق تشكيلها بعد جلاء الاستعمار الفرنسي بمساع كافية من طرف النخب السياسية وسلطات الدولة من أجل تمتين قيم العيش المشترك، بما يسهم في تشكيل هوية وطنية سورية جامعة، عبر صهر مختلف الانتماءات ما فوق الوطنية وما دونها في الانتماء الوطني السوري، والإفادة منها في ترسيخ إرادة في العيش المشترك والتوافق على عقد اجتماعي بين جميع مكونات المجتمع السوري التعددي، الذي تسمه علاقات وانتماءات إثنية ودينية مذهبية ومناطقية متنوعة.
ومع الانقلابات العسكرية بدأت مفاعيل أزمة وطنية عامة في الظهور، وأفضت شيئاً فشياً إلى تآكل قيم العيش المشترك والتضامن الاجتماعي، وخاصة بعد انقلاب الثامن آذار / مارس عام 1963 الذي أوصل حزب البعث إلى السلطة، وأعلن عن اعتلاء فئات، عسكرية ومدنية من الطبقة الوسطى والدنيا الريفية، سدة الحكم، وإزاحة الفئات البرجوازية المدنية التقليدية.
وأخذت الأزمة الوطنية العامة بالتفاقم مع انقلاب حافظ الأسد في 1970، الذي بنى نظاماً تسلطياً شمولياً، مارس فيه مختلف إشكال التغلّب الطائفي، وعمل على تفتيت مختلف أشكال الاجتماع المدني والسياسي، وصادر وقمع جميع أشكال الحراك السياسي والمدني والاجتماعي المخالفة له، أو تلك التي لا تصب في مصلحة نظامه، بوصفها مصلحة وطنية عليا، لتصبح سوريا مملكة له ومختزلة في شخصه وعائلته على حساب إقصاء السوريين وتكويناتهم، لأن السوري بالنسبة إليه لم يكن يعني أكثر من مجرد رقم في أعداد الرعايا، وبالتالي لم يعد يحس السوريون بأي وجود سياسي أو اجتماعي لهم بسبب ممارسات النظام الطاردة للاجتماع السوري، وفي ظل قوانين الطوارئ والأحكام العرفية، بوصفها القوانين والأحكام التي بقيت تشكل امتيازاً مطلقاً بيد نظام الأسد، وسيفاً مسلطاً على رقاب السوريين، أفراداً وجماعات.
ولعل تعامل نظام الأسد الوحشي مع الثورة السورية، أفضى إلى إدخال سوريا في أتون حروب وصراعات متعددة المفاعيل، وذات وجوه وأشكال متعددة، أهلية ودولية وإقليمية. وباتت القضية السورية لعبة تدار بين ساسة وأجهزة الدول الخائضة في الدم السوري، بينما غُيب السوريون، بفعل عوامل ذاتية وموضوعية، عن التأثير في مجريات قضيتهم، وباتوا مجرد أدوات بيد أجهزتها وساستها، الأمر الذي جعلهم خارج اللعبة، وخارج دائرة صنع القرار أو التأثير فيه.
وبالنظر إلى غياب التوافق بين الدول والقوى المتحكمة بالوضع السوري، يغيب أي أفق لحل سياسي في سوريا على المدى المنظور، وبالتالي فإن من المرجح أن تسود حالة التفتت والانقسام في الجسد السوري، بالرغم من أن سلطات الأمر الواقع الثلاث لا تتمتع بأي شرعية شعبية، لا سلطة نظام الأسد وميليشياته، ولا الميليشيات والفصائل المسيطرة على مناطق شرقي الفرات أو غربه، كونها تمثل قوى مفروضة على السوريين في مناطق سيطرتها بقوة السلاح ودعم الدول الخائضة في الدم السوري، التي تمثل دول احتلال للأراضي السورية، وبالتالي فإن ممكنات بناء الوطنية السورية تستلزم الأخذ بعين الاعتبار واقع السوريين المنقسم والمفتت وكيفيات تجاوزه، والنظر في الأسباب التاريخية والراهنة التي أنتجت ارتكاسات وأزمات عديدة في الاجتماع السوري، والانصات لهموم وتطلعات مختلف التكوينات ولعلاقتها بالوطنية وتفهم طبيعة تفكيرها، وفتح نقاش وطني عام يهدف إلى تشكيل وعي تعاقدي يبنى على مصالح وتطلعات جميع التكوينات السورية، من خلال مؤتمر وطني جامع لكل المكونات والقوى، بغية تطوير وعي كياني يسهم في تشكيل قطب جاذب لوطنية سورية تعددية وديمقراطية لا تقوم على التغلّب أو المصادرة.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت