مناوشات تركية-روسية بإدلب..انهيار اتفاق موسكو أم بوادر تفاهم جديد؟
منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق في إدلب بين اللاعبين الرئيسيين في شمال غرب سورية، تركيا وروسيا، راهن كثيرون على مدى الالتزام بتطبيق الاتفاق بصيغته الكاملة، واستمراره بالوتيرة ذاتها لحين التوصل لحل سياسي مأمول، للملف السوري، أو على الأقل لحين إيجاد صيغة اتفاق آخر تفرضها الظروف والمتغيرات على الساحة.
إلا أن الحديث عن ذلك الرهان عاد مجدداً جرّاء تغييرات طرأت مؤخراً على المشهد، الذي زادت من ضبابيته، وتحديداً في مناطق شمال غربي سورية، حيث بدت حالة عدم التفاهم بين الروس والأتراك جليّة نسبياً، وسط مخاوف من عملية عسكرية محتملة يحضّر لها نظام الأسد بدعم روسي، وتستعد لها الفصائل السورية بدعم تركي.
فاليوم، الروس غائبون عن الدوريات العسكرية المشتركة، خلافاً لأبرز بنود اتفاق موسكو، حيث تسير الدوريات التركية منفردة منذ قرابة الشهرين، على الطريق الدولي حلب- اللاذقية “M4″، في حين زاد التصعيد العسكري الروسي على منطقة جبل الزاوية “الاستراتيجية”،خلال اليومين الماضيين، في خرق واضح لأهم بنود الاتفاق، وهو وقف إطلاق النار.
و زاد من ضبابية المشهد، مؤخراً، إخلاء القوات التركية لنقاط مراقبة تُحيط بها مناطق سيطرة قوات النظام في ريفي حماة وإدلب، وأبرزها نقطة مراقبة “مورك”، حيث جاء الإخلاء بالرغم من الإصرار التركي السابق على انسحاب قوات النظام إلى خلف حدود نفاهم “سوتشي”.
انسحاب الأتراك.. “تجنباً للابتزاز”
يرى الإعلامي المختص بالشأن الروسي، نصر اليوسف، أن انسحاب قوات الأسد إلى حدود سوتشي لم يكن مطروحاً بالنسبة للروس منذ انتهاء العملية العسكرية الأخيرة على إدلب، والتي سيطرت خلالها قوات الأسد على مساحات “استراتيجية” في المحافظة، بما فيها مناطق تتمركز فيها القوات التركية.
وأضاف اليوسف في حديث لموقع “السورية نت”، أن مسألة تراجع النظام عن تلك المناطق مغلقة تماماً بالنسبة للروس، على اعتبار أن وجهة النظر الروسية تقول إن: “تحرير هذه الأراضي كلّف دماء كثيرة، وبالتالي من غير المنطقي ومن غير الأخلاقي أن يُرغم المقاتلون على الانسحاب، حيث سيُعتبر ذلك خيانة لدماء رفاقهم”.
وبالتالي، من غير المنطقي بحسب اليوسف أن تُبقي تركيا نقاط المراقبة التابعة لها هدفاً بسيطاً يمكن ابتزازها به بأي وقت، معتبراً أنه في حال كان هناك أي مخطط لتسخين الأوضاع من جانب الأتراك أو الروس، فإن نقاط المراقبة ستكون “نقطة ضعف” بالنسبة لتركيا.
وجهة نظر اليوسف تتفق مع رأي الخبير العسكري في “مركز عمران للدراسات الاستراتيجية” نوار شعبان، الذي اعتبر في حديث لـ “السورية نت”، أن وجود نقاط تركية محاصرة في ظل “هشاشة” اتفاق وقف إطلاق النار، واحتمالية حدوث عمل عسكري بري “يجعل ظهر تركيا مكسوراً” على حد تعبيره، موضحاً أنه في حال دخول الروس والأتراك بمحادثات أو اتفاقات جديدة حول إدلب، فإن تركيا سوف تشارك بورقة ناقصة لصالح الروس.
واستبعد شعبان أن تكون دوافع الانسحاب التركي هو عدم وصول اللوجستيات إلى نقاط المراقبة المحاصرة، حسبما تداول محللون، أو لوجود مقايضة بين الروس والأتراك على أمر ما، معتبراً أنها مجرد خطوة استباقية من تركيا كي لا تقع بالابتزاز.
يُشار إلى أن عدد النقاط التركية المحاصرة يصل إلى 8 نقاط، وكانت قوات الأسد قد حاصرتها بشكل كامل، في أثناء تقدمها العسكري الأخير، على حساب فصائل المعارضة في إدلب وريف حماة، وأهمها: نقطة الصرمان، مورك، معرحطاط، تل الطوقان، العيس، الراشدين.
إحجامٌ روسي عن الدوريات.. إلى متى يستمر؟
رغم أن اتفاق وقف إطلاق النار في إدلب، منذ توقيع الرئيسين التركي والروسي عليه في 5 مارس/ آذار الماضي، في موسكو، لم يسر وفق ما هو مرسوم له بشكل مثالي، إلا أن الأشهر التي تلت الإعلان عنه شهدت هدوءاً نسبياً للقصف والعمليات العسكرية، وعودة قلة من الأهالي إلى مناطقهم التي نزحوا عنها، فضلاً عن نجاح روسيا وتركيا بتسيير ما يزيد عن 20 دورية مشتركة، قطعت بعضها المسافة المتفق عليها من شمالي M4 إلى جنوبه، رغم المآخذ الروسي على الجانب التركي
فمنذ أكثر من شهرين امتنعت روسيا عن المشاركة إلى جانب الأتراك في الدوريات العسكرية بإدلب، بعد تعرضها لهجمات عدة.
ويرى نوار شعبان من “مركز عمران”، أن الاتفاق بين الروس والأتراك حول إدلب، أصبح معقداً ومتشابكاً، بدءاً من إحجام روسيا عن المشاركة في الدوريات المشتركة على “M4″، ووصولاً إلى خروقات وقف إطلاق النار المتكررة على المنطقة.
وفسّر شعبان لموقع “السورية نت”، امتناع الروس عن المشاركة في الدوريات العسكرية، بأن موسكو لا تزال متخوفة من عدم قدرة أنقرة على ضبط المنطقة في إدلب، متذرعة بوجود تنظيمات “إرهابية” تستهدف الدوريات الروسية على وجه التحديد.
إذ تعرضت الدوريات الروسية على الطريق الدولي لهجمات متكررة من قبل من تسميهم موسكو “إرهابيين”، كان آخرها تفجير استهدف عربات روسية- تركية منتصف شهر يوليو/ تموز الماضي، قرب مدينة أريحا، ما أدى إلى إصابة 3 جنود روس، وتضرر ناقلة جنود روسية ومدرعة تركية.
ووجهت روسيا انتقادات عدة لتركيا، معلنة صراحةً عدم رضاها عن الوضع الراهن، فيما تتهم الأخيرة جماعات مسلحة غير مرتبطة بها بالمسؤولية عن استهداف الدوريات المشتركة، بهدف “زعزعة الاستقرار وجهود السلام” في المنطقة.
وبحسب نوار شعبان، فإن المخاوف الروسية تبعها محاولات لإقناع تركيا بسحب معداتها الثقيلة من جنوبي “M4” وإخلاء بعض نقاط المراقبة هناك، متحدثاً عن رغبة روسيا بضبط المنطقة ووضع يدها عليها، على اعتبار أن تركيا عجزت عن ذلك، من وجهة نظر الروس.
جبهةٌ تريدها روسيا”هشّة” وتتمسك بها تركيا
خلافاً لأبرز بنود اتفاق وقف إطلاق النار، صعّد الطيران الحربي الروسي خلال الأيام القليلة الماضية، من قصفه لقرى وبلدات جبل الزاوية “الاستراتيجية” جنوبي إدلب، بالصواريخ الفراغية، مستهدفاً مواقع مدنية وأراضٍ زراعية بشكل عشوائي، تزامناً مع تعزيزات تركية للمنطقة.
حيث تركزت الغارات بشكل محدد على قرية الرامي وأطراف قريتي فركيا والمغارة، ما أدى إلى وقوع إصابات بين المدنيين، حسبما وثقت فرق “الدفاع المدني السوري”.
ويقول نوار شعبان، إن منطقة جبل الزاوية هي منطقة حيوية واستراتيجية بالنسبة للنظام وروسيا، باعتبارها مدخل لأي عمل عسكري متوقع.
وأضاف “من مصلحة النظام وروسيا أن تكون منطقة جبل الزاوية هشّة من الناحية الدفاعية، وذلك عن طريق استهدافها بشكل دوري وعشوائي”، مشيراً إلى أن التصعيد الحالي يخدم هدفاً “استراتيجياً” عبر جعل المنطقة ضعيفة وإجبار الخطوط الدفاعية الأولى على الانسحاب للخلف، مما يُسهّل أي تقدم عسكري محتمل للنظام والروس.
ومع ذلك، يرى الإعلامي المقيم في روسيا، نصر اليوسف، أن القصف الروسي على جبل الزاوية لا يمكن ترجمته بأنه تمهيد لعملية عسكرية كبيرة على المنطقة، معتبراً أنها مجرد “مناوشات” و”فركة أذن” قد تستمر مطولاً.
وأضاف اليوسف أن الخلاف بوجهات النظر بين روسيا وتركيا في القضايا الإقليمية، وعلى رأسها أزمة قره باخ وليبيا وشرق المتوسط وغيرها، يدفع الروس إلى الانتقام من الأتراك عبر استهداف حلفاء تركيا في سورية.
وتابع “روسيا تترجم غضبها من تركيا في سورية. ومع ذلك أستبعد اندلاع حرب بين الجانبين أو حدوث هجوم عسكري كالذي انتهى في 5 مارس/ آذار الماضي”.
هل تشهد المنطقة اتفاقاً جديداً؟
التطورات السابقة مجتمعة طرحت تساؤلات حول مدى صمود اتفاق وقف إطلاق النار في إدلب، أمام تضارب الرؤى الروسية- التركية على الساحة السورية، باعتبار أن إدلب كانت ولا تزال نقطة عالقة في أي محادثات تدور بين الجانبين حول سورية.
وبهذا الصدد، يرى الإعلامي المختص بالشأن الروسي، نصر اليوسف، أن اتفاق موسكو لن ينهار بصيغته الحالية، ليس لأنه محصن قانونياً وموثق لدى الأمم المتحدة، حسب تعبيره، بل لأن العلاقات التركية- الروسية تشعبت مؤخراً ودخلت مرحلة “متقدمة” في تاريخها، مضيفاً أن “كل طرف أصبح بحاجة للطرف الآخر”.
وحول حدوث اتفاق جديد بين الجانبين، استبعد اليوسف ذلك، بقوله إنه لا حاجة للتوصل لاتفاق جديد بين الروس والأتراك حول إدلب، لكن في ظل المتغيرات والتطورات الراهنة قد يحصل تطوير لاتفاق موسكو، أو إضافة ملحقات جديدة بالاتفاقيات السابقة بين روسيا وتركيا، حسب قوله.
واختتم حديثه: “بتقديري سيبقى الوضع في إدلب على ما هو عليه، لحين انتهاء العملية السياسية السورية، وإغلاق الملف السوري”.
أما نوار شعبان من “مركز عمران للدراسات الاستراتيجية”، فقد اعتبر أن إدلب قد تشهد اتفاقاً جديداً “لكن الحدود مرسومة وستظل كما هي”، وفق قوله، مشيراً إلى أن إخلاء تركيا لنقاط المراقبة التابعة لها في ريفي حماة وإدلب لم ولن تؤثر على اتفاق موسكو، على اعتبار أن معظم تلك النقاط تموضعت في جبل الزاوية.
واختتم بقوله “المعضلة الأساسية هي منطقة جبل الزاوية، جنوبي M4، والتي ترفض تركيا التخلي عنها، وتصر روسيا على وضع يدها عليها. إذ لا توجد حتى اليوم صيغة واضحة لتفاهم بين الجانبين حول تلك المنطقة”.