يتزامن الحديث المتصاعد من أنقرة عن مشروع إعادة اللاجئين السوريين إلى مناطق الشمال السوري مع خطاب سياسي يحمل في تضاعيفه نبرة تصعيدية تُنذر بعملية عسكرية تركية تستهدف المناطق والبلدات التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وهذا ما أكده الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في كلمته أمام المجمع الحكومي في أنقرة، يوم الإثنين الفائت (23–5–2022).
وعلى الرغم من أن كلمة الرئيس التركي لم تتضمن موعداً محدّداً للعملية العسكرية المشار إليها، وكذلك لم تحدّد المناطق التي يمكن أن يطولها الاستهداف التركي، إلّا أن ثمة مؤشرات تحيل إلى أولوية تركية في بعض المناطق قبل سواها، وبالنظر إلى سياق تلك الأولويات تبدو بلدة تل رفعت وما حولها من بلدات وقرى، والتي يبلغ تعدادها (24 بين بلدة وقرية)، هي الأقرب إلى تطلعات أنقرة وذلك لعدة أسباب، من أبرزها:
أن هذه البلدات والقرى كانت قد احتلتها قسد، في شباط من العام 2016 – بغطاء ودعم روسي – وذلك ردّاً على إسقاط القوات التركية لطائرة روسية آنذاك، أي إن احتلال تلك المناطق كان بدافع كيدي روسي، المُراد منه إزعاج تركيا واستفزازها بالدرجة الأولى، وليس لحاجة استراتيجية روسية.
وقد استمرت موسكو بالحفاظ على نفوذها في تلك المناطق من خلال توفير الغطاء العسكري لقوات قسد طيلة السنوات الماضية، كورقة ضغط على تركيا تُضاف إلى أوراق أخرى، إلّا أن المستجدات السياسية والميدانية التي أفرزتها الحرب الروسية على أوكرانيا قد تلعب دوراً كبيراً في إبطال مفعول كثير من أوراق الضغط السابقة، فروسيا المنهمكة اليوم في حربها على أوكرانيا تواجه تحدّياً أميركياً وأوروبياً يجعلها تحرص على ألّا تبتعد كثيراً عن أنقرة، بل ومن غير المُستبعد أن تتخلى عن نفوذها في تلك المناطق إذا ما حظيت بالحفاظ على مصالح أخرى لها مع تركيا، وخاصة أن بقاء نفوذها في تل رفعت وما حولها لا يجسّد مكسباً استراتيجياً عسكرياً أو سياسياً.
أمّا من جهة الحسابات التركية فإن أوّل ما يمكن تأكيده هو أن عدد السكان الذين نزحوا من تل رفعت وما حولها إبان احتلالها يقارب 250 ألف نسمة، توجه قسم منهم إلى تركيا، والقسم الآخر يوجد في مخيمات النزوح بالشمال السوري، ولعل عودة هؤلاء السكّان إلى بلداتهم وقراهم تتماهى مع دعوة أنقرة إلى إعادة اللاجئين، بل إن عودة ربع مليون لاجئ إلى بيوتهم الأصلية ربما يسهم في إضفاء جانب من المشروعية العملية لفكرة إعادة اللاجئين.
أمّا مدينة منبج، فلعل الأمر مختلف عما هو عليه في تل رفعت، من جهة أنها تخضع للنفوذ الأميركي، منذ آب 2016، بعد طرد تنظيم داعش منها، وهي منذ تلك الفترة تحكمها قوات قسد بقيادة حزب “الاتحاد الديمقراطي – PYD”، ولعل استمرار المظلة الأميركية على تلك المنطقة هو ما حال دون وصول قوات نظام الأسد وحليفه الروسي إليها، على الرغم من وجودهما على بعد (20 كم) من جهتي الغرب والجنوب.
لم تُخف أنقرة رغبتها في أن تكون منبج مشمولة بالمنطقة الآمنة التي تطالب بتحقيقها، ولعل اتفاق الرابع من حزيران 2018 بين أنقرة وواشنطن كاد أن يفضي إلى تحقيق ما تريده تركيا، لولا الخذلان الأميركي لمطلب أنقرة وتنصّله التدريجي من تلك الاتفاقية، ولكن على الرغم من ذلك تبقى المدينة محط أنظار جميع الأطراف وليس أنقرة فقط، لأسباب عديدة، يمكن إيجاز أبرزها بما يلي:
ما تزال تحافظ منبج على بنيتها التحتية والعمرانية، نظراً لعدم تعرضها لحملات دمار ممنهجة كما في بقية المدن، فضلاً عن احتفاظها أيضاً بحيويتها الاقتصادية والتجارية، الأمر الذي يؤهلها كي تكون ملاذاً آمناً لأعداد كبيرة من السكان.
ثمانون في المئة من سكانها هم من العرب، وهذا ما يدفع أنقرة لليقين بأن حاضنة حزب “الاتحاد الديمقراطي” تكاد تكون معدومة، وبالفعل فقد شهدت المدينة صيف 2021، احتجاجات شعبية عارمة ضد سلطات قسد، وما يزال ينظر كثير من أبناء المدينة إلى سلطة الأمر الواقع الحالية على أنها ذات شرعية قسرية غير منبثقة من نسيجهم السكاني والاجتماعي.
لقد غادر منبج منذ العام 2014 ما يقارب مئتي ألف نسمة من سكانها، ومعظم هؤلاء يوجدون في مناطق اعزاز وجرابلس والباب، إضافة إلى وجود قسم منهم أيضاً في تركيا، وما من شك في أن هؤلاء يجدون في خروج قسد فرصةً لعودتهم إلى بيوتهم وبلداتهم وقراهم، وهذا ما يتماهى مع المسعى التركي، أي فكرة عودة اللاجئين.
ليس ثمة ما يوحي بعملية عسكرية تركية وشيكة باتجاه منبج، ولكن بالمقابل أيضاً هناك إلحاح تركي متزايد بالضغط السياسي والميداني حيناً، والرسائل الإعلامية حيناً آخر، لكي تبقى مدينة منبج على قائمة الأولويات التركية.
بطبيعة الحال، لا يغيب عن أنقرة أن الرفض الأميركي كان ملازماً دائماً لأي تقدّم تركي باتجاه مناطق سيطرة قسد، إلّا أن المناخ الدولي الذي أفرزته حرب بوتين على أوكرانيا ربما يدفع تركيا نحو مقاربة جديدة للموضوع، ربما اعتمدت هذه المقاربة على استثمار حاجة واشنطن الشديدة إلى تركيا، سواء من جهة الدعم الذي تقدمه تركيا لأوكرانيا من خلال تزويدها بأعداد هائلة من الطائرات المُسيّرة (بيرقدار)، أو من جهة حاجة واشنطن أيضاً إلى الحفاظ على حلف الناتو وتماسكه في الوقت الراهن، وخاصة حين تجد أنقرة أن الفرصة باتت مناسبة جداً لاستثمار طلب كلٍّ من السويد وفنلندا بانضمامهما إلى حلف الناتو، لتكون أكثر إلحاحاً في مطالبها المتمثلة بوقف الدعم والتبنّي لحزب “العمال الكردستاني” ومشتقاته في سوريا، مما يفضي إلى الظن بأن واشنطن ربما تكون أكثر حرجاً من ذي قبل أمام الحليف التقليدي التركي، فإلى أي مدى سيدفع هذا الحرج حكومة الرئيس بايدن إلى تقديم تنازلات جديدة من شأنها أن تكون قادرة على توطيد الثقة بينها وبين تركيا؟
وأما القول بوجود صلة وثيقة بين كل ما يجري من تصعيد وبين الانتخابات التركية المقبلة في العام 2023، فهو أمر ذو نصيب من المعقولية والمشروعية أيضاً.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت