كاتب هذه السطور ليس، البتة، من أنصار منظمة Freedom House الأمريكية، وثمة الكثير من المظانّ التي تطعن في أهليتها لترسيم خرائط الديمقراطية، انتشاراً أو انحساراً، على نطاق المعمورة؛ لسبب جوهري أوّل هو أنها تتموّل من الحكومة الأمريكية، وفي هذا ما يستولد أسئلة جدية حول مصداقيتها؛ ولسبب ثانِ، ليس أقلّ تعبيراً عن الجوهر، هو تاريخا (تأسست سنة 1941) الذي ارتبط بتراث الحرب الباردة والاستقطابات الإيديولوجية التناحرية. لكنّ تقاريرها السنوية حول مؤشرات الديمقراطية، والحرّيات السياسية والمدنية، تظلّ بالغة النفع لاعتبارات إحصائية صرفة، أوّلاً؛ وكذلك لأنّ الانتقادات التي تًوجّه عادة لتلك التقارير لا تنصبّ عملياً على المنهجية العلمية في استنباط الأرقام والمؤشرات والمعطيات.
مفيد، إذن، ما تخلص إليه التقارير حول معدّلات الديمقراطية على امتداد العالم، وذلك بالنظر إلى أنّ المعايير المعتمدة في استخلاص الترتيب العامّ تستند بالفعل على واقع ميداني، ومادة إحصائية، ومقارنات ملموسة. ليس غريباً، والحال هذه، أنّ تقرير هذا العام، الذي صدر مؤخراً، يمنح الولايات المتحدة علامة 86 من 100، مقابل حصول قبرص على 94، البرتغال على 96، والأورغواي على 98، وهولندا على 99؛ وكذلك انفراد النروج وفنلندا بالعلامة 100. وفي المقابل، ورغم أنّ المملكة العربية السعودية دولة تابعة وبقرة حلوب لدى الإدارة الأمريكية، فإنّ التقرير لا يمنحها سوى 7 من 100، ومعدّل الحريات السياسية فيها يقف عند 1، والحريات المدنية 6. أمّا النظام السوري فإنه ينفرد بالرقم 0 على صعيد المعدّل العام للديمقراطية، كما ينفرد برقم ناقص 3 في الحريات السياسية، و3 في الحقوق المدنية؛ ولا ينافسه في سوية هذه الأرقام المنحطة سوى جنوب السودان: 2، وناقص 2، و4.
غير أنّ الدلالة الأهمّ في التقرير هي الخلاصة التي تبلغها سارة ريبوشي في السطور الأولى: «الديمقراطية والتعددية تتعرضان للهجوم. الطغاة يجهدون لطمس آخر علائم الانشقاق الداخلي ونشر تأثيرهم الضارّ إلى زوايا أخرى في العالم. وفي الآن ذاته، ثمة العديد من القادة المنتخبين ديمقراطياً يضيّقون هواجسهم على نحو دراماتيكي عن طريق حصرها في تفسير المصلحة القومية. وفي واقع الأمر يتزايد ميل هؤلاء القادة ـ وبينهم رؤساء الولايات المتحدة والهند أكبر ديمقراطيتين في العالم ـ إلى الكسر الإرادي للضمانات الدستورية، وعدم الاكتراث بحقوق المنتقدين والأقليات أثناء اقتفائهم لأجنداتهم الشعبوية».
الدلالة الثانية المكمّلة هي أن العام 2019 كان الرابع عشر على التوالي من حيث انحطاط الحريات على مستوى كوني؛ وأنّ الولايات المتحدة ذاتها في عداد الدول التي شهدت انحسار الحقوق الديمقراطية، تعقبها أمثال الأرجنتين وكرواتيا ومنغوليا وبناما ورومانيا وبولونيا…
دولة الاحتلال الإسرائيلي حصلت على 76 علامة، وذلك رغم أنّ التقرير يخصص فقرة كاملة لرئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، الذي كان «في طليعة الشعبوية القوموية والشوفينية حين عاد إلى السلطة قبل عقد، لكنّ نزوعاته المعادية للديمقراطية برزت إلى الصدارة مؤخراً حين تعرّض تمسّكه برئاسة الحكومة إلى تهديد. نتنياهو اتخذ خطوات جذرية متزايدة للحفاظ على ولاء مجموعات اليمين المتطرف، مكرساً ومتوسعاً في مستوطنات الضفة الغربية على حساب عملية السلام الفلسطينية الهشة، فحظر النشطاء الأجانب المناهضين لتلك السياسات، وسنّ قانوناً تمييزياً يحصر حقّ تقرير المصير في إسرائيل للسكان اليهود». ورغم أنّ التقرير يأتي على ذكر بلدان مثل فاناتو، توفالو، ترانسنيستريا، تونغا، سانت فنسنت، سانت كيتس، جزر سليمان، بالاو، ناورو، ميكرونيزيا، جزر مارشال، كشمير الهندية، شمال قبرص، قطاع غزة، دونباس الشرقية، بيليز… فإنه لا يحتسب السلطة الوطنية الفلسطينية في لائحة الدول، ومن دون تبرير السبب وراء احتساب قطاع غزّة!
غير أنّ تقارير الـFreedom House تعفّ، عموماً، عن الغوص في الأسباب العميقة لهذا الركام الديمقراطي، إذا جاز التعبير؛ والذي لا تكفي لتفسيره وقفات متعجلة عند شعبوية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أو قوموية رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي، أو شوفينية رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو. وهي لا تُدرج، في خانة الأسباب الموجبة، حقيقة ساطعة مفادها أنّ التزويج القسري بين الديمقراطيات الناشئة وكلّ من اقتصاد السوق والفلسفة النيو ـ ليبرالية، وكان عرّاب عقد الزواج مؤسسات الرأسمالية الكبرى مثل البنك الدولي وشقيقه صندوق النقد الدولي؛ هو في رأس الاعتلالات الاجتماعية ـ الاقتصادية، التي أفرزت سلسلة أوجاع سياسية على صعيد أنظمة الحكم الوليدة. وأمّا الانحسار الديمقراطي في أمريكا فإنه لم يبدأ مع ترامب حتى إذا كان يسجّل المؤشرات الأكثر قلقاً حتى الساعة؛ ليس لأي سبب آخر يسبق ذاك الذي تنبأ به كارل ماركس قبل أكثر من 170 سنة؛ عن رأسمالية تخلق، بأيديها، حفّاري قبورها.
ولعلنا، من جديد، بحاجة إلى اقتباس الاقتصادي والمفكر الفرنسي جاك أتالي، الذي رأى أنّ السمة الجوهرية السائدة اليوم هي «انهيار» Crash الحضارة الغربية وليس «صراع» Clash الحضارة الغربية مع سواها من الحضارات؛ غامزاً بذلك من قناة صمويل هنتنغتون حول صراع الحضارات، ومعه فرنسيس فوكوياما حول نهاية التاريخ.
وأتالي هذا، كما يعلم الجميع، ليس مراقباً عادياً لمشهد العولمة الراهن، فهو عمل مستشاراً وكاتم أسرار في حاشية الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتيران؛ وعرف، استطراداً، الكثير من خفايا السياسة الدولية، خصوصاً في طور انهيار المعسكر الاشتراكي وحرب الخليج الثانية. وهو ثانياً اقتصادي بارز شغل منصب المدير العام لأوّل بنك موحّد، وُضع تحت إدارة الاتحاد الأوروبي. ولقد ساجل بأنّ اقتصاد السوق والديمقراطية «قيمتان عاجزتان عن ضمان بقاء أية حضارة إنسانية. إنهما حافلتان بالتناقضات ونقاط الضعف. وإذا لم يسارع الغرب، ثمّ الولايات المتحدة بوصفها قائدة الغرب المعيّنة بقرار ذاتي، إلى الإعتراف بنقائص وأزمات اقتصاد السوق والديمقراطية، فإنّ الحضارة الغربية سوف تأخذ في الانحلال التدريجي، ولسوف تدمّر نفسها بنفسها».
خلاصة بالغة الخطورة، غنيّ عن القول، لكنّ محاذيرها لا تتوقف عند احتمالات كهذه، إذْ يتابع أتالي فيشير إلى أنّ الشقوق والصدوع أخذت تظهر هنا وهناك على سطح الحضارة الغربية في مجملها، ثقافياً واجتماعياً وليس اقتصادياً وسياسياً فحسب. ولقد بدأ بتحديد ثلاثة تناقضات مستعصية، غير قابلة للتصالح، تمنع حدوث الزواج الناجح بين اقتصاد السوق والديمقراطية: الأوّل هو أنّ المبادىء الناظمة لاقتصاد السوق والديمقراطية لا يمكن تطبيقها في معظم مجتمعات الغرب (في بلده فرنسا الرأسمالية العريقة، حيث المكاسب الاجتماعية، وحال النقابات والجمعيات السياسية، وميراث الثورة الفرنسية تعيق انطلاق اقتصاد السوق إلى ما يحتاجه أحياناً من وحشية قصوى عمياء).
التناقض الثاني هو أنّ هاتين القيمتين، السوق والديمقراطية، تدخلان غالباً في حال تصارع بدل حال التحالف، وتسيران وجهاً لوجه بدل السير يداً بيد. التناقض الثالث هو أنهما حملتا على الدوام بذور تدمير الذات، لا لشيء إلا لأنّ ديمقراطية السوق كفيلة بخلق «دكتاتورية السوق» بوصفها عنوان حروب التبادل، بين ديمقراطية صناعية كبيرة وأخرى أكبر وثالثة تعدّ نفسها الأكبر (ولا يحتاج المرء إلى أمثلة هنا، فهي لا تُعدّ ولا تُحصى).
وصحيح أنّ المقارنة قد تُنتفى بين صفر آل الأسد في سوريا وأجندات ترامب الشعبوية في أمريكا، إلا أنّ المنطق العامّ يجيز الافتراض بأنّ ركام انحسار الحقوق والحريات يتلاقى على القمم كما في السفوح؛ وخاصة حين يشهد على ذلك شاهد مثل الـFreedom House، من أهلها!
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت