أنا سيدة النقد الأولى، حوّاء النقد..
ولدتُ سنة 1919، في مصرف سوريا، وكان لي شأن كبير، ولم تسقط نجمةٌ في الشمال ولا في الجنوب عند ولادتي، ولم يهتزْ عرش كسرى، ولدت مرتبطة بالنقد الفرنسي لكني كنت جليلة، كنت أسبق عشرين فرنكاً فرنسياً في سباق المئة متر حواجز وماراتون، وعندما بلغت الفطام، وُلدتْ أختٌ أخرى لي اسمها الليرة أيضاً في مصرف سوريا ولبنان في سنة 1924، فنحن أختان من أمٍّ واحدة، ثم وضعوني في عهدة الجنيه الإسترليني، وصاروا يقارنونني بها عندنا وقعت تحت هيمنة التحالف الفرنسي البريطاني ، وكنت أعادل ثمن الجنيه الإسترليني تقريباً، وفي سنة 1947 كان الدولار أطول من قامتي مرتين وثلث المرة، واستمر هذا المعدل حتى سنة 1961، ومع ثورة الثامن من آذار وصعود العسكر عليّ الزمان فنزلت رتبتي.
كنت مصنوعة من الورق أول ولادتي، وكنت سيدة مهيبة، ولي ملكٌ عظيم، وصارت لي أخوات معدنيات، عذراوات وأيامى، وأبناء من الغروش، وخالات من ذوات الليرتين، والخمس وعشرين ليرة والمئة ليرة والخمسمئة ليرة..
كنت أستطيع أن أُظِلَّ عائلة أسبوعاً بسلطاني، اتخذني موظف وأدَّخرني للذكرى في بطن كتاب ثم نسيني، فلم يتح لي أن أعيش وأن أتنقل بين الجيوب، وأن أروي كثيراً من الذكريات. بقيت عزيزة، شريفة حتى الحركة التصحيحية المباركة، بل إني لم أفقد شرفي وتاجي إلا بعد مذبحة الثمانينيات، بتواطؤ من النظام المالي الغربي، فالهيمنة السياسية تعني الهيمنة الاقتصادية، والأوروبي عندما يزور بلادنا، يستطيع أن يعيش سنةً بأجر شهر من أجور، ومن غير تأشيرة دخول، ويعيش بكامل الكرامة، أكرم من رئيس فرع مخابرات، وأكثر عزةً منه، فكأنه سيد البلاد. كل غربي يزورنا يشبه جليفر في أرض الأقزام، وكل عربي ينزح هو قزم في أرض العمالقة.
أحاول أن أتذكر، وقد بلغت مئة حَول وحَول، وصار لي أولاد وأحفاد مثل الألف ليرة، عليها صورة الرئيس الأب، والألفين عليها صورة الرئيس الحالي، وهو ابنه كما علمت وعلمتم، وكنت محلاً لرسومات وطنية وقومية ودينية وتاريخية، ثم جارت السياسة عليّ ونزلت إلى الحضيض، ولست سعيدة بذلك، أقول إن قيمتي اقتصادية وسياسية انحطت من علٍ، لقد اغتصبت مثل حرائر سوريا في المعتقلات، الخيول التي تجرُّ عربة الدولة ينبغي أن تكون متكافئة السرعة والقوة. مع الحركة التصحيحية صار حصان السياسية هو الذي يجرُّ عربة الدولة، وفرس الاقتصاد الذي أصابته الأمراض من الفساد والرشوة، تحول جثةً يجرها معه حصان السياسة الجامح المسعور. في أمريكا الحصان هو الاقتصاد والفرس هي السياسة.
وكان ذلك الموظف الذي احتفظ بي كما يحتفظ أهل أوروبا بليرة الحظ للذكرى في بطن كتاب منسي، ينتظر حتى يجيء زمان، يعرضني فيه مثل لوحة قديمة لفنان مجهول، ويبيعني بثروة في سوق الذكريات الوطنية، مثل تحفة، لكني بقيت ليرة واحدة، فالنظام سعيد بما جرى لي، وقد حوصر الشعب كله كما حوصر أهل الغوطة، فالمجاعة تدهم الشعب كله، ويئست الناس من دعم النازحين بعملتهم الصعبة التي تراقب رقابة شديدة، ثم تفرم إلى آلاف الليرات فتعوم وتطوف فهي مثل غثاء السيل.
لم أعد شيئاً مذكوراً، لولا حضُّ النظام للتجار أمس على الاعتراف بي، فصرت أشتري فروجاً كاملاً سعره خمسة آلاف، بليرة، لمد ة ساعة أو ساعتين، فأصحاب المحلات السورية غير مقتنعين بهذه البدعة، ازدحم الناس على المحلات بعد أن فتشوا مطامير أولادهم القديمة وانقلبوا حاشرين أمام محلات الألبسة والطعام، فلم ينالوا خيراً وعادوا مهزومين، فكأنما يعاقب القدر النظام بما اتهمت به الثورة التي ثارت من أجل سندويشة، وتقول الحكومة إنها تريد جمع الليرات وصهرها، وأن تُبلغ مطابع العملة في سويسرا بحاجتها إلى ليرة جديدة ، ذات قوة وهيبة، ويعتقد أن المسألة “فنكوش”، والنظام الذي هزم مئة دولة يزعم أن التجار هم الذين يجوعون الشعب، والتجار المقصود بهم السنّة، فالعلويون ضباط مخابرات وعساكر جيش ومرابطون على محور المقاومة، وهمهم هو تحرير القدس!
لغد تغيرت أمور كثيرة، بعد إقرار قانون قيصر، وكان النظام قد خسر ثروات الجزيرة من ذهب أسود وأصفر، وانهيار البنية التحتية بنزوح الملايين وبوار المزروعات ، ودمار الصناعات الصغيرة التي نجت من التدمير البطيء عبر عشرات السنين، وانكفاء إيران على جروحها وتوقف معوناتها، وتجميد المصارف اللبنانية للأموال السورية، التي كانت أموال ناهبي الشعب قد نزحت إليها، وانقطاع الأموال المذهبية التي كانت تغذي النظام السوري من العراق، يضاف إلى ذلك عدم وجود آمال في الأفق المنظور برضى أمريكا على إعادة الاعمار، والسبب الأساس لهذا التفقير، هو أنَّ النظام نظام غدر، لا يأمن أحد فيه على نفسه وماله، موالياً كان أو معارضاً، النظام قدوة، الشعب والجميع ينظرون إلى الرئيس ومن حوله ويقلدونهم، فيزداد الفساد أضعافاً مضاعفة.
لم تعلن الطغمة الحاكمة الرأسمالية التي تدّعي الاشتراكية أي تخفيض على منتوجاتها، مثل الوقود، أو جواز السفر، أو مقاعد أعضاء مجلس الشعب، أو كراسي الوزارة، بليرة، كما وقع في الأسواق على بعض بضائع التجار، يعني على السنَّة، الطعام وحده الذي نزل سعره لساعة من نهار، ووصلتُ إلى حكمة وقد بلغت مئة سنة هي أنَّ الهزات الكبرى التي تعرضتُ لها كانت الإصلاح الزراعي، وكانت الهزة الثانية مع الحركة التصحيحية ومذبحة الثمانينيات، والثالثة هي مع الثورة، واستشعرتُ خطراً، ورأيت نذر نار، عندما سحب النظام ورقة خمس والعشرين ليرة من الأسواق وأعدمها، وهي إحدى بناتي، عليها صورة صلاح الدين الأيوبي وأتلفها، وكانت تلك المحاولة هي الرابعة لاغتيال صلاح الدين الأيوبي الذي تعرض لثلاث محاولات اغتيال من أسلاف النظام الحشاشين، وكان ذلك إيذاناً بالبحث عن طريق جديد للقدس، ثم تدهورت حال ابنتي الخمسمئة ليرة، وسيقت زنوبيا أسيرة مرة ثانية إلى روما، كما ساقها الرومان في المرة الأولى، وندبتُ حظي ولعنتُ يوم ولادتي عندما رأيت صورة الرئيس على الألف، وتمنيت لو أني لم أولد، وكانت المرة الرابعة، عندما أعلن النظام عن نيته استيراد سيارات بالدولار في الثمانينيات، وكانت خطة لدفع الموسرين من أبناء الشعب إلى التنازل عن قوتهم الصعبة، فاكتتبوا على سيارات لم تستورد إلا بعد عشرين سنة، بالدولار، وكانوا سعداء جداً، وصاروا ضعفاء جدا، وبعضهم سحب مال الاكتتاب على السيارة، بعد أن يئسوا من وفاء النظام بوعده من غير موعد، وكان النظام قد قضى على التنافس الاقتصادي، كما قضى على التنافس السياسي، السباق بين العملات ضروري لحياة العملات وللتجارة، وكذلك بين الأحزاب، ورأيتُ أن غاية النظام بجمع الليرات المعدنية القديمة هي القضاء على الذكريات، فالطغاة يهابونها، وقد دمروها بالبراميل، وغايتهم هي إضعاف الشعب اقتصاديا، وتحويله إلى شعب بونات.
يمكن القول هزواً إن سوريا صارت دولة اشتراكية، يعيش شعبها بالبطاقات الذكية، وإن ليرة واحدة صارت تشتري كل شيء، الثمين والغث، ويمكن القول بعد هذا العمر، إنه ليس بالسيف وحده تحيا الدول.
لم يكن النظام يهتم يوماً بالاقتصاد، ولا حتى باستقبال العملة الصعبة، فهو يضيِّق عليها ويرهبها، فالعمل في داخل سوريا كان ممنوعاً. سوريا معتقل كبير، والنظام حوَّل سوريا إما إلى مقبرة وإما إلى سيرك بمساعدة خبراء المال، ولابد أنه كان يضحك أمس وهو يتفرج على طوابير الناس أمام محلات الطعام والقهوة، وقد نزح التجار الأذكياء باكراً، يقولون إنَّ رأس المال جبان، وهو أيضاً شديد الذكاء والدهاء، وإرسال العملة الصعبة من النازحين في الخارج إلى الأهل كان يمرُّ بالغرابيل والفلاتر ويعلن عن توبته مثل المواطنين المهاجرين المشتاقين، ويباع بغير قيمته الحقيقية مثل الإنسان السوري، قيمته في سوريا غير قيمته في أبعد المنافي، هو مجرد فنجان قهوة ، سكتة قلبية .. النظام كان يعيش على بيع السياسة الخارجية، وأجرته كان ينالها شرعيةً سياسية، لحُسن حراسته السجن السوري الكبير.
حُشر الناس أمس ضحى ووقفوا، ليس احتجاجا على قصف إخوانهم في إدلب، ولا دعماً للقدس على أبواب محلات الفروج من أجل فروجة عاشت على أكل الحصى، حالهم ليس كحال أهل الكهف، قد أُخرجوا حتى يستمتع النظام بالنصر، ولو شاء- والمشيئة ليست له – لجعل الليرة تعادل ثلاثة دولارات بأمواله المنهوبة والمودعة في بنوك بعيدة.
أبشروا بعملةٍ هي البونات، وبعملة أعقاب السجائر كما في السجون.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت