لا تتوقف عن الذيوع الأخبارُ التي تنصّ على انهيار متسارع لليرة السورية، مع انهيار معيشي تصعب ملاحقته أولاً بأول، بالتزامن مع هيمنة شركاء القصر الجمهوري شكلياً “وواجهاته فعلياً” على المزيد من المرافق الحيوية وأوجه النشاط التجاري والاقتصادي. على سبيل المثال، لم تكن فضيحة خصخصة مؤسسة الخطوط الجوية السورية “التي شاع خبرها قبل أسبوع” فضيحةً فقط بسبب الصلات المحتّمة بين واجهة المستثمرين الجدد والقصر، بل هي فضيحة إضافية مجلجلة عندما يكون الرأسمال لتأسيسي للشركة المستثمرة حديثة الإنشاء يقلّ عن مبلغ 10 آلاف دولار.
في مؤشّر تُنتَظر آثاره السلبية على الأسعار، سيكون القطاع الخاص مضطراً لاستجرار المحروقات من خلال شركة القاطرجي، ذات الصلات المعروفة أيضاً بالقصر، فضلاً عن صلاتها بفاغنر وربما بأشخاص أو بكيانات أخرى من المافيا الروسية. وقبل قصة المطار والمحروقات بأيام، أرسل الأسد شروطه إلى الأمم المتحدة كي يقبل بإدخال المساعدات “عبر الخطوط” إلى اللاجئين المحتاجين في مناطق الشمال، وهي شروط اعتبرتها الأمم المتحدة غير مقبولة. وأغلب الظن أن الشروط المرسلة تُكمِل عمل الفيتو الروسي الذي عارض تمديد إرسال المساعدات من خلال “معبر الهوى” مع تركيا، والغاية هي إقفال ملف المساعدات الأممية نهائياً وهو ما كان واضحاً في تصريح لنائب المندوب الروسي في مجلس الأمن عقب استخدام الفيتو.
ما يغيب عن الأذهان بالجعجعة الروسية في مجلس الأمن، وبتأييد من الأسد المعترض أصلاً على المساعدات، أن المعونات الأممية تصل إلى الشمال السوري ضمن سلة متكاملة، وأن إيصالها إلى المحتاجين هو على الجانبين، ولا تستطيع موسكو أو الأسد الاحتفاظ بآلية خاصة لإغاثة المحتاجين في مناطق سيطرة الأسد ومنعها عن السوريين خارج سيطرته. بعبارة أخرى، لا يتورّع الأسد “من أجل الانتقام من السوريين خارج سيطرته” على معاقبة المحتاجين الواقعين تحت سيطرته، بمن فيهم الشريحة الأوسع ممن كانوا يحسبون أنفسهم موالين له. وقد تقتضي الاستفاضة في الشرح، ليس إلا، أننا نستخدم تعابير من قبيل أنه “لا يتورّع” وكأنّ الحال لم يكن دائماً هكذا!
يؤخذ انهيار الليرة السورية في الأسابيع الأخيرة على محمل المفاجأة، وكدلالة صريحة على التدهور الاقتصادي، بعدما كان التطبيع العربي يفتح على وعودٍ مغايرة. لكن يجدر التنويه بأن قيمة الليرة السورية لا تتحدد بموجب قوانين السوق، وهي تخضع لمضاربات لصالح الحلقة الضيقة ذاتها، بينما تزداد الأسعار بنسب تفوق دائماً التضخم الرقمي الذي يعكسه انخفاض سعر صرف الليرة، ويقتضي تحرّي بعض الدقة الأخذ بمؤشرات التضخم ومقدار الدخل. وإذا أخذنا مثالاً مجرّداً كارتفاع سعر البيضة الواحدة إلى 1500 ليرة، سنجد أنها ارتفعت ألف ضعف عن ما قبل آذار 2011، ولو سايرت الليرة مقدار التضخم نفسه لكانت قيمتها 50 ألفاً مقابل الدولار. إن أخذ مجمل المؤشرات معاً لن يعطينا فقط حصيلة أقرب إلى الواقع عن معدل الفقر، بل سيكشف عن حجم الفاقة والجوع المتفاقمَيْن من دون أمل بالخلاص.
وكان من المأمول حقاً لو أن الحديث عن انعدام الأمل يأتي على سبيل الهجاء السياسي، لا على سبيل التوصيف كما هو الحال دائماً مع الطغمة نفسها. ففي الشهور الأخيرة وحدها حصلت هذه الطغمة على شتّى الوعود الاقتصادية مصحوبة بالتطبيع العربي لقاء التوقف عن تجارة الكبتاغون “كاختبار أول”، والمؤشّرات تدلّ على عدم التزامها بهذا التعهّد البسيط، ومنها طرح مشروع قانون “الكبتاغون 2” للتصويت في الكونغرس باتفاق بين الجمهوريين والديموقراطيين، ووصفُ رعاة القانون الأسد بأن “زعيم عصابة دولية لتجارة المخدرات”. قبل وأثناء الوعود العربية، وصلت مساعدات خليجية “البعض منها فقط بذريعة الزلزال”، ولم تُحدِث أثراً على الإطلاق لأنها ذهبت إلى الجيوب المعتادة. حتى المساعدات الأممية التي يبتز الأسد الأمم المتحدة بها من المعلوم أن نسبة كبيرة منها لا تذهب إلى مستحقيها، بتواطؤ من موظّفي الأمم المتحدة، وفي العديد من المناسبات ظهرت أدلّة على ذهابها إلى ميليشيات الأسد أو شبيحته.
التغيّر الوحيد الذي طرأ على هذه السلطة هو أنها، منذ اندلاع الثورة، كشفت عن وجهها الحقيقي الوقح، الإباديّ بالسلاح أو بالتجويع، حيث لم يتوقف التجويع ليكون من نصيب الثائرين عليها فحسب. تباشير فجور السلطة وجشعها المطلق كانت قد ظهرت من قبل، وكان كلام من هذا القبيل قد نُقِل عن أحد مستشاري بداية عهد الابن، بعدما يأسَ ذلك المستشار وعاد إلى مكان إقامته السابق في باريس. أضيفَ بعد الثورة إلى ما سبق أن الأسد لا يرى نفسه معنياً بتقاسم أي عائد سوى مع شركائه المحليين من ميليشيات وشبيحة، ومع شركائه الإقليميين الذين تولّوا حمايته، وهو المصير الذي ستلاقيه أية مساعدات يتم تسليمها له لا مباشرةً لمستحقيها.
كلّ ما يُقال عن إعادة تأهيل “النظام”، بصرف النظر عن عدم أخلاقية الفكرة بعد ارتكاب الفظائع، لا يصل إلى الحدّ المطلوب، والذي يقتضي إدخال رجالات السلطة مراكز إعادة تأهيل، تليها فترات كافية من وضعهم تحت المراقبة حتى يُثبتوا انسلاخهم “ولو غير التام” عن طريقة تفكيرهم بالسلطة. هذا سيناريو خيالي، لكنّه ليس بالكوميدي، والأقرب إلى المطلوب إذا كان لا بدّ من الحفاظ على هؤلاء الذين لا بديل لهم (!) هو إخضاعهم لغسيل أدمغة من أجل زرع أفكار أقلّ رثاثة، أفكار من نوع: نظام وديكتاتورية وفساد حكومي.. إلخ.
قبل “الخيبة” الصغيرة التي كانت متوقَّعة من نتائج التطبيع العربي، ينبغي الاعتراف بخيبة مجمل تصوّرات السوريين التي راجت قبل سنوات، لدى موالين أو معارضين، وفي رأس تلك التصورات هي التغييرات التي سيُدخِلها الحليف الإيراني، ثم الحليف الروسي، على بنية ونهج السلطة. ففي أسوأ تصورات المعارضين، يحتمل الحليف الإيراني والروسي الحديثَ عن نظام “أوتوقراطي أو ديكتاتوري”، وعن دولة ومؤسسات مهما كانت مخترقة بالمحسوبيات، وعن إنجازات تقنية وصناعية حتى إذا كانت عسكرية الطابع وبهدف الاحتفاظ بالسلطة. لذا انتظر قسم من الموالاة أن تُصاب سلطتهم بشيء من عدوى الحلفاء أو أن تُفرض عليها فرضاً، وكذلك حال قسم من المعارضة توقّع أن تكون الخصومة مع طهران أو موسكو أقلّ انحطاطاً مما هي عليه مع الأصل. لم يكن أشدّ التوقعات تشاؤماً ليصل إلى توقُّع هذا، حيث يكون الاستثمار في شركات القاطرجي والمطار وسواهما في منتهى الانسجام مع مَن يستثمر القصر الجمهوري.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت