تفصلنا عشرة أيام عن اجتماع أهم قوتين مقرِرتين في المصير السوري: روسيا وأميركا. على جدول أعمالهما الكثير من الملفات الحساسة البينية والدولية؛
ولا ندري ترتيب الملف السوري في جدولهما، ولكنه حتماً حاضرٌ بحُكْمِ علاقته بملفاتهما الأخرى، وربما الأهم.
ينتظر السوريون ألا تذهب قضيتهم “فرق عملة” في تزاحمهما على عشق إسرائيل، والتلاعب بإيران ومعها، واستنزاف تركيا، وتلاعبهما بمعبر “باب الهوى” كنقطة ابتزازية تمَسُّ مصير أربعة ملايين سوري؛ هذا إضافة إلى محاولات بوتينية جاهدة لتسويق منظومة استبدادية – طوع بنانه – كي يحصل على تنازل في ملفاته الدموية الأخرى.
رغم القرار والإعداد الروسي، والمباركة الإسرائيلية، والترتيب الفني الدعائي الإيراني في إخراج مسرحية “انتخابات الأسد”، إلا أن التمترس الأميركي والأوروبي ودولا كثيرة حول لا قيمة ولا شرعية تلك الانتخابات، وخروج “نتنياهو”- الصديق والداعم الأساس للوجود “البوتيني” في سوريا- من السلطة في إسرائيل، وكمقدمة للقاء المرتقب، يخرج علينا نائب وزير خارجية روسيا “بوجدانوف” بوعد للسوريين “بانتخابات مبكرة؛ إذا حدث توافق بين النظام والمعارضة على استئناف العملية السياسية”.
هكذا تصريح يطوي صفحة المسرحية، ويرمي تهنئة بوتين للأسد في مَكَب التصريحات الروسية. فعندما يقول بوتين للأسد: “إن نتائج التصويت أكدت بشكل كامل سمعتكم السياسية العالية، وثقة مواطني بلدكم بالنهج الذي يمارس بقيادتكم لاستقرار الوضع في سوريا وتعزيز مؤسسات الدولة في أسرع وقتً”؛ ثم يخرج علينا بوغدانوف معبراً عن استعدادية المخرجين لطي أو حتى دعس ما حدث، ففي الأمر تغيُّر دراماتيكي، أو لعبة أقذر من سابقاته، أقلّه ذر الرماد في العيون.
كنائب لوزير خارجية روسيا، ومبعوث رئاسي خاص للملف السوري؛ لا ينطق بوغدانوف عن هوى؛ فحتى لو اتسمت السياسة الخارجية الروسية بالبهلوانية، ما مِن صُدَف في السياسة؛ وخاصة في مفاصل زمنية هامة وأحداث دولية جسام. ما قاله الرجل رسالة إلى جهات مختلفة، على رأسها لقاء بوتين المرتقب مع الرئيس الأميركي الذي يحمل ملفاً فيه كل النقاط السوداء المسجلة على روسيا في سوريا عسكرياً وسياسياً، وآخرها إخراج مسرحية انتخابات تطوي أية عملية سياسية في سوريا، وتضرب بعرض الحائط قرارات دولية خاصة بإيجاد حل في بلد يتحوّل إلى أشلاء. رسالة بوغدانوف لقمَّة بايدن – بوتين تعبّر عن استعداديةٍ روسيةٍ لمسح تلك الخطيئة. إنها رسالة لأميركا بأن الورقة السورية باليد الروسية، وهي على استعداد للمصافقة عليها.
أي ثمن يريده الروس من هكذا “خطوة” محتملة؛ إن لم تكن من جملة التصريحات والوعود الروسية الخلبية؟ الأمر الطبيعي أنهم يتطلعون إلى شيء من المرونة وحتى “الرخاوة” الأميركية تجاه ملفات روسيا الكثيرة. وفي الملف السوري تحديداً، يتطلعون إلى تجديد “وكالة” التدخل في سوريا، حتى مع غياب نتنياهو، كحليف أساسي لبوتين في سوريا؛ والأهم من كل ذلك رفع العقوبات، وفتح الاستثمارات تحت يافطة إعادة الإعمار، بحيث تكون اليد الروسية هي العليا بذلك؛ وهذا فعلياً ما يعني بوتين.
مقابل ذلك، ما الذي يترتب على بوتين إضافة للتعهد بإلغاء مخلفات تلك المسرحية السمجة، وإجراء انتخابات جديدة حقيقية منسجمة مع القرارات الدولية في بيئة طبيعية؟ هل سيكتفي بايدن بعين روسية حمرا واضحة تجاه إيران وملفها النووي وعبثها بالمنطقة؟ هل سنسمع التزاماً حقيقياً بالتطبيق الحرفي للقرارات الدولية بشأن سوريا؟
تواجه هكذا التزامات- إن تمت- عراقيل لا حصر لها مرئية وغير مرئية؛ فملالي طهران والمنظومة الأسدية كتوأم سيامي؛ وإذا اتفقت مصالح بوتين والخامينائي في سوريا على القتل، فإنهما يختلفان في الرؤى والمصالح، وما قد يكون طعمٌ لذيذ لواحد، سُمٌ رعاف لآخر. وهنا لن يلبي بوتين ما ينشده بايدن. من جانب آخر، إسرائيل التي استشعرت قمة الأمان والإنجاز بالوجود الروسي في سوريا، والتي أعطت شبكة أمان لبوتين بالمقابل، غاب ملكها نتنياهو، الذي كان دعماً غير محدود لبوتين؛ وخاصة إذا أخذنا التوتر القائم بين الراحل وبايدن؛ وهذا يجعل ظهر بوتين مكشوفاً. هناك بالتأكيد العامل العربي والبعد التركي؛ اللذان قد لا يكونا على هوى بوتين تماماً؛ ما يفاقم ويراكم ما أمامه من معوقات ليتدبرها.
أما العنصر الأخير الذي يمكن أن يُفسد كل الطبخة، ويقلب الطاولة على رؤوس الجميع فليس إلا شعب سوريا ومَن يتمترس عند حقه من “المعارضة” التي يتحدث عنها “بوغدانوف”؛ والتي تعلم أن روسيا ما توقفت يوماً عن تشويهها ونسف مصداقيتها. لن ينجز بوغدانوف وعده، ولا بوتين مخططه إلا إذا انطلقت العملية السياسية؛ وتحديداً من بوابتها “اللجنة الدستورية”؛ وهي العبارة المفتاحية في تصريح بوغدانوف. ربما يراهن السيد بوغدانوف على رفض المعارضة المتمثلة بالهيئة السورية للتفاوض ولجنتها الدستورية لاستئناف أعمالها في جنيف بحكم ديمومة فشل عمل اللجنة بسبب سلوك النظام وموسكو. وعندها يخرج بتصريح آخر مفاده أن هناك من يعطل العملية السياسية، فما لهذا العالم، حسب تصوره، إلا التعامل مع هذا “النظام الشرعي”.
ليس هناك أعرف وأعلم بسياسة موسكو، وتصريحاتها ومواقفها مِمَّن قصدهم لافروف. هؤلاء وكل أحرار سوريا يعرفون أن مَن دمّر لن يبني؛ ومن هجّر وشرد لن يعيد نازح؛ ومن أنقذ مجرماً لن يكترث بضحية؛ ومن كذب على الدوام لن يصدق؛ ومن قال عن ثوار يقاومون الظلم والاستبداد الاسدي إرهابيين لا يرى في كل من هو ضد الاستبداد من السوريين إلا إرهابيين، ويجب قتلهم؛ ومن كان نهجه سياسة الأرض المحروقة في بلاد “الشيشان” يفعلها ثانية في سوريا؛ فموسكو لم تفِ بوعد ولا صدقت بتصريح ولا انتهجت سياسة إلا وآذت السوريين وآلمتهم، ولا قامت بفعلٍ في سوريا إلا القتل والتدمير والسطو على مقدرات البلد وحماية المجرم.
ولكن، إذا كانت روسيا قد قررت أخيراً أنه لا بد مِن حل حقيقي، فلا بد من نهج موثق دولياً وخاضع للاختبار، حتى يكون هناك تجاوب. والمسألة بسيطة جدا: التوثيق الدولي في مجلس الأمن بتطبيق حرفي وكامل للقرار الدولي 2254. وإن كان البدء في اللجنة الدستورية، فكتابة دستور جديد يفصل السلطات، ينصُّ على الحريات، يصون الوطن والمواطن، ويحفظ الحقوق، لا يحتاج إلى أكثر من شهر؛ والجدول الزمني المذكور في القرار الدولي إياه هو المنارة والدليل. وهذه ليست شروط، وإنما قضايا موثّقة في القرارات الدولية الخاصة بسوريا.
ملاحظة أخيرة: أكتب هذا باسمي الشخصي؛ وأعتقد أنه صوت ملايين السوريين. وإن كانت الأمور ستسير باتجاه آخر، سيكون لي موقف علني لحظتها.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت