يشهد الشأن السوري مؤخراً حركية تائهة المعالم، على المسارين العسكري والسياسي، ففي المسار العسكري، أصدر رئيس النظام السوري تعميمًا يقضي بتخفيض جاهزية قواته المسلحة لتعود لطبيعتها كما كانت قبل تسع سنوات، وتمثل بتخفيض نسبة الاستنفار في الإدارات التابعة للقوات المسلحة، بحسب كل إدارة، من 66 إلى 33% للمقارّ الإدارية، ومن 80 إلى 50% للقطعات التابعة لها، أما بالنسبة للقوات البرية والبحرية فقد خفضت جاهزيتها من 100 إلى 80%، بينما بقيت جاهزية المشافي العسكرية بنسبة 80%.
وتتمحور معظم الإشارات إلى أن التخفيض عائدٌ في جوهره للوضع الاقتصادي السيئ الذي يعاني منه النظام، إلا أنه هناك دوافع عسكرية أيضاً فجبهات القتال مع المعارضة السورية، توقفت منذ ما يزيد عن 10 أشهر، ولم تعد تشهد عملياتٍ عسكرية مباشرة، وهي فرصة كافية ليستفيد منها النظام في تسريح وإراحة جزءٍ من قواته المنهكة على الحدود الشمالية بشكلٍ خاص. هذا الهدوء الحذر الحاصل في جبهة الشمال منح النظام فرصة للتركيز على الجنوب السوري، المنطقة التي ما انفكت تطل بمؤشرات لعودة القتال لها مجدداً، منذ حدوث اتفاقيات المصالحة، فقام مؤخراً بإرسال دفعاتٍ جديدة من قوات الفرقة الرابعة للمحافظة، من جهة أخرى تعاني روسيا من استمرار الضغط الإسرائيلي لإخراج الميليشيات الإيرانية من الجنوب السوري وإبعادها عن الحدود الإسرائيلية السورية، ورغم عدم استعجال وفشل موسكو بتطبيق الرغبة الإسرائيلية، إلا أنها قامت خلال الفترة الأخيرة بتنظيم عدة دورات تدريبية ورفع مستوى الجهوزية لدى قوات الفيلق الخامس لأربعة مرات خلال شهرٍ واحد، وهو مؤشرٌ لاحتمال زيادة دورها، سواء في الجنوب السوري، أو مناطق أخرى قد يرغب النظام أو روسيا، بتوظيف ما تبقى من جيشه والفيلق الخامس فيها وهي البادية السورية التي تحولت لمطحنة شرسة لجنود النظام، بتكاليف ولوجستيات بسيطة من قبل تنظيم الدولة العائد للنشاط فيها، بالإضافة إلى محافظة ديرالزور التي استحوذت إيران على أهم مفاصلها. أما بالنسبة للفاعلين الآخرين، فتظهر استمرارية المحاولات التركية للحصول على مكتسباتٍ جديدة شرق الفرات سواء عبر التدخل المباشر، وهو ما يبدو أنه صعبٌ وفق التوازنات الحالية، أو السير في عملية الضغط المستمر على نقاط الضعف الرئيسية لدى الإدارة الذاتية، متمثلة في عين عيسى بشكلٍ رئيسي، ولم تأت بنتائج مباشرة رغم محاولة روسيا والنظام الاستفادة من التوتر الحاصل للحصول على مكاسب جديدة من الإدارة الذاتية.
خلافات سياسية تهدد كيانات المعارضة
على الجهة الأخرى يشهد المسار السياسي السوري تفككاً أكبر مما كان عليه أثناء وصول المعارك لذروتها على الخارطة السورية، فمن جهة تشهد هيئة التفاوض خلافاتٍ داخلية بين منصات: موسكو والقاهرة، وهيئة التنسيق الوطني وبين كتلة الائتلاف. ووصلت الخلافات لدرجة قامت السعودية بتعليق عمل موظفي الهيئة على أراضيها، وذلك قبيل أيام قليلة من انعقاد الجولة الخامسة من مفاوضات اللجنة الدستورية مع النظام السوري. علماً أن الهيئة تتخذ من الرياض مقراً لها منذ تأسيسها أواخر عام 2015. من جهتهم قابلت المنصات الثلاثة موسكو، والقاهرة، وهيئة التنسيق وزير الخارجية الروسي، لبحث الخلاف الحاصل داخل الهيئة. الخلافات التي بدأت بعد اعتماد هيئة المفاوضات الجناح الذي يقوده فراس الخالدي ممثلاً عن منصة القاهرة، على طلب استبدال: قاسم الخطيب (وهو عضو هيئة المفاوضات وعضو اللجنة الدستورية)، ليحلّ مكانه: نضال محمود الحسن كعضو في الهيئة، وتليد صائب، كعضو في اللجنة الدستورية، وهو ما استدعى اعتذاراً من جمال سليمان، ممثل منصة القاهرة في الهيئة، عن حضور الجولة الخامسة من اجتماعات اللجنة الدستورية، التي بدأت الإثنين 25/01/2021، (ورغم الربط بين هذه الأحداث وتغيب جمال سليمان عن الجولة الخامسة، إلا أنه لم يكن حاضراً في الجولة الرابعة أيضاً) كما اعترضت منصة موسكو على استبعاد ممثلها: مهند دليقان عن اللجنة، وهو ما يعني استمرار غيابها عن اجتماعات اللجنة، وهي لم تكن حاضرة منذ الجولة الأولى نتيجة استمرار اعتراضها على فصل ممثلها). أما هيئة التنسيق الوطنية، والتي اصطفت إلى جانب منصتي موسكو والقاهرة، في مواقفهم مما حدث داخل هيئة المفاوضات، إلا أنها حضرت اجتماعات اللجنة.إلى جانب التطورات الحاصلة داخل هيئة التفاوض، فإن الائتلاف نفسه كان يعاني لفترة طويلة من إشكالياتٍ داخليةٍ تتعلق بمسارين رئيسين:
الأول: بين قيادة الائتلاف والحكومة السورية المؤقتة، ووصلت لقيام مجلس محافظة حلب الحرة التابع للحكومة السورية المؤقتة بتبني قرار يقضي بتعليق عضوية ممثله في الائتلاف السوري المعارض، معللاً القرار بمقتضيات المصلحة العامة، لكن الواضح أن هذه الخطوة تأتي تعبيراً عن وقوف مجلس المحافظة إلى جانب رئيس الحكومة المؤقتة عبد الرحمن مصطفى، في خلافه مع رئيس الائتلاف نصر الحريري.
والثاني: يتعلق بالعلاقة بين الائتلاف والمجلس الوطني الكُردي، نتيجة انخراط الأخير في عملية تفاوضية مع حزب الاتحاد الديمقراطي والأحزاب المتحالفة معه ضمن ما يسمى “الحوارات الكُردية الكُردية”، إلى جانب اختلافات الرأي المتحجرة بين أعضاء الائتلاف نفسه حول ملفات عدة، من أبرزها: التسمية الرسمية لسوريا، وطبيعة وشكل منظومة الحكم المستقبلية.
الإدارة الذاتية وطرق أبواب المشاركة في جنيف
قرع طبول الخلافات ضمن منصات المعارضة في الرياض وموسكو، لا تبعدها عن شرق الفرات سياسياً، فمنذ بدء المسار الدولي للمفاوضات السورية، تحاول الإدارة الذاتية الانخراط فيها، ولتجاوز هذه العقبة قبلت بعض الأطراف ضمن “قسد ومسد/ الإدارة الذاتية”، الدخول في عملية تفاوضية مع المجلس الوطني الكُردي، منذ بداية العام الماضي، ورغم وصول الطرفين لتفاهماتٍ أولية إلا أن المفاوضات لا تزال تواجه عواقب عدة، أهمها ما تطرق إليه “قائد قسد: مظلوم عبدي”، من وجود عناصر حزب العمال الكُردستاني، والبدء بخطوات لخروجهم من المنطقة، وهو أحد أهم مطالب المجلس الوطني الكُردي للتمكن من الوصول إلى اتفاقٍ نهائي.
الخطوات الأخرى التي أقدمت عليها الإدارة الذاتية في محاولة لكسر حواجز مشاركتها ضمن المفاوضات الدولية، أو الوصول لصيغة تفاهم محلية في شرق الفرات سواء مع المجلس الوطني الكُردي، أو مع بقية مكونات المنطقة، عبر عدة ندوات قامت قسد بتنظيمها تحت شعار “المؤتمر الوطني لأبناء الجزيرة والفرات “وبلغت 13 ندوة، ركزت بشكلٍ رئيسي على التحاور مع المكون العربي لشرق الفرات، وعقب الندوة تم عقد مؤتمر تم إعلان التوصل لورقة تتضمن 17 قراراً شملت جوانب إدارية وسياسية واقتصادية واجتماعية وتعليمية وعسكرية وأمنية، من إعادة تأهيل موظفي الإدارة، واحترام سيادة سوريا، وإصلاح القطاع القضائي والأمني، والعمل على عقد انتخاباتٍ محلية في غضون عامٍ واحد، وتبنى حل الأزمة السورية وفق بيان جنيف وقرار مجلس الأمن رقم 2254 وإشراك “مسد” في العملية السياسية. وضمن هذه السياقات جاء فوز الرئيس الأميركي جو بايدن، الأمر الذي دفع بمسؤولي الإدارة الذاتية لرفع نسب الإيجابية في توقعاتهم للمستقبل، وبشكل أكبر مع قيام بايدن، بتعيين بريت ماكغورك، (المفترض أن علاقته جيدة بقسد، ولكن الحقيقة تظهر أن قسد والأكراد عموماً فقدوا الكثير من المناطق لصالح أطرافٍ أخرى في ظل إدارة ماكغورك للملفات الأمنية والعسكرية في المنطقة).
منصة “مسد” للمعارضة ومصير المنطقة
خلافات أجسام المعارضة، والحوارات والمفاوضات المحلية التي تجريها ” قسد ومسد”، بالتوازي مع فوز بايدن، ترافق مع ظهور تصريحات حول توجه “مسد” لتشكيل منصة جديدة للمعارضة، تتألف من شخصياتٍ تخرج من الأطر والمنصات المعارضة المنخرطة في العملية التفاوضية وتنضم للمنصة التي ستشكلها مسد. ورغم أن معالم هذا الجسم التمثيلي لا تزال مجهولة المعالم، إضافة لاحتمالية عدم وصولها لصيغة اتفاق، إلا أن ما حدث مؤخراً في مدن القامشلي، والحسكة وحلب، من حصارٍ متبادل من قبل الإدارة والنظام يشير إلى وجود أسباب عديدة لهذا التوتر ومنها التصريحات المؤخرة لشخصيات من مسد، حول المنصة الجديدة، مع ظهور بوادر رغبة أميركية ببقاءٍ مستقر شرق الفرات، بالإضافة لعدم تنفيذ مطالب النظام بتسليم مناطق جديدة له بشكل كامل، فمن جهة لم يستطيع النظام والجانب الروسي من إيقاف عمليات القصف التركية على عين عيسى ومحيط تل تمر، كما لم تقم قوات سوريا الديمقراطية من طرفها بسحب عناصرها بشكلٍ كامل وفق المتفق عليه. ولا يبدو أن النظامين الروسي والسوري راغبان في تقديم خدمات مجانية إضافية للإدارة الذاتية وحزب الاتحاد الديمقراطي، فالأخير دخل للمفاوضات الكردية برعاية أميركية، كما أن قوات “قسد” لا تسهّل عمليات تمركز القوات الروسية خارج مناطق التماس مع الجيش الوطني، وبدأت مسد بالحديث حول تشكيل هيئة معارضة جديدة، وتجمعت هذه العوامل في زيادة التوتر بين الإدارة الذاتية والنظام السوري.
حديث “مسد” عن مؤتمرٍ وطني للمعارضة تزامن مع زيادة الخلافات والأزمات ضمن هيئة التفاوض بين ممثلي الائتلاف من جهة، وممثلي منصات: موسكو، والقاهرة، وهيئة التنسيق، تشير إلى احتمالية ازدياد محاولات البحث عن منصةٍ جديدة يكون “لمجلس سوريا الديمقراطي” تمثيلٌ رئيسي فيها فالأجسام الثلاثة: منصة موسكو، والقاهرة وهيئة التنسيق، هي من الأطراف التي كانت أو لا تزال تمتلك علاقاتٍ مباشرة واتفاقاتٍ مع الإدارة الذاتية، فمنصة موسكو وقعت قبل أشهر عدة اتفاقيات مع الإدارة الذاتية، ومنصة القاهرة كانت قد وقعت بداية تشكلها اتفاقاً مع حركة المجتمع الديمقراطي، الحركة التي كانت مع حزبها الرئيسي حزب الإتحاد الديمقراطي جزءاً من هيئة التنسيق الوطني. هذه العلاقة بين المنصات الثلاث و”مسد” تطرق لها أيضاً الرئيس المشترك لـمسد، رياض درار، حول رفض الائتلاف لدعواتهم له لحضور والمشاركة بالمؤتمرات التي عقدتها “مسد” خلال العام الماضي، داخل سوريا وفي الاتحاد الأوروبي، ووفقه هو ما دفعهم للتوجه لمنصات المعارضة الأخرى. ويبدو أن “مسد” ستكثف من مسعاها في هذا الاتجاه وفق ما صرحت به إلها أحمد أيضاً حول أن هدف الإدارة الذاتية خلال العام الحالي يتمثل في إقامة مشروع مشترك مع المعارضة السورية وجميع أطراف الحل. وضمن هذه التفاعلات يأتي تصريح: أنس العبدة (رئيس هيئة التفاوض) بعدم طرح موضوع انضمام مجلس سوريا الديمقراطية “مسد” إلى الهيئة رسمياً خلال اجتماعاتها مؤخراً، مع التأكيد على إمكانية بحث هذا الانضمام بشرط تخلي مسد عن ارتباطاتها بحزب العمال الكردستاني.
جملة هذه التطورات تضع مآلات شرق الفرات والإدارة الذاتية ضمن احتمالات متعددة، يطفو منها في الوقت الراهن:
1- وجود توجه حقيقي مدعوم من الطرف الأميركي لإضعاف النظام السوري في محافظة الحسكة، والانتقال لخطوات متقدمة فيما يخص التعاون بين الإدارة الذاتية والمعارضة السورية. مع محاولة تأجيل قيام تركيا بعملية عسكرية جديدة في المنطقة، بناءً على الطرح الذي يتناول خروج كوادر حزب العمال الكُردستاني من الأجانب، ضمن اتفاق قد يشمل فقط منطقة شمال شرقي وشمال غربي سوريا، أو يتم طرحه كبداية لحل سوري شامل.
2- والاحتمال الآخر هو زيادة التوتر بين الإدارة الذاتية والنظام، وصولاً لمرحلة تكون الإدارة الذاتية بين خيارين: إما مواجهة النظام من داخل محافظة الحسكة والرقة (مع احتمال حدوث مواجهة جديدة مع تركيا وفصائل الجيش الوطني المدعوم تركياً)، أو الانسحاب لصالح عودة أقوى للنظام.
ختاماً: يظهر على الساحة السورية السياسية والعسكرية، وجود تأزم ضمن أجسام المعارضة، أو ضمن تموضع ” مسد / الإدارة الذاتية” التي طرحت نفسها كخطٍ ثالث (لا معارضة، ولا نظام) خلال سنوات الحرب والثورة في سوريا، فالمعارضة السورية وصلت إلى حالة تضارب توجهات الأطراف المشكلة لها والمختلفة في طبيعتها، بينما “مسد” تحاول طرق الأبواب من جديد للحصول على كرسي على طاولة نقاش مصير سوريا، وضمن هذه الأجواء يعود نقاش مصير شرق الفرات للواجهة مرة أخرى، في ظل إدارة أميركية جديدة ومحاولة الأطراف الدولية المنخرطة في الساحة السورية الحصول على مكاسب أكبر قبل أن تتمكن الإدارة الأميركية من تثبيت وتقوية فرقها الدبلوماسية في الشأن السوري عموماً، وشرق الفرات خصوصاً.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت