تتناول تحليلاتٌ أخيرا فكرة إمكانية تعويم نظام بشار الأسد، انطلاقاً من الرغبة الأردنية، ووراءها رغبة عربية، بالتطبيع معه، بعد أن تم تسريب مبادرة أردنية تتضمن خطّة “لتغيير سلوك النظام”، قدّمها الملك عبد الله الثاني إلى الرئيس الأميركي، جو بايدن، في زيارته واشنطن في يوليو/ تموز الماضي. وتستند تلك التحليلات إلى تصريحات الملك ومسؤولين أردنيين، وبعضها يذهب إلى أن في وسع عمّان فتح مسيرة التطبيع الجزئي مع النظام، مع غضّ نظر أميركي عن عقوبات قانون قيصر الاقتصادية بشأن مشاريع متعلقة بالبنى التحتية، أي تحت عنوان خطة “الإنعاش المبكر” التي طرحها بايدن في اجتماعه مع نظيره الروسي بوتين في جنيف في يونيو/ حزيران الماضي؛ وتلي ذلك كله عودة النظام إلى جامعة الدول العربية، وعودة البعثات الدبلوماسية معه، أي عبر خطة “الخطوة مقابل خطوة” التي طرحها مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سورية، غير بيدرسون. وهذا يعني أن على النظام أن يقدّم خطواتٍ تتعلق بمحاربة الإرهاب، وإخراج مليشيات إيران، وخروج المعتقلين، والمضي بالحل السياسي وفق القرارات الأممية، وصولاً إلى تشكيل هيئة حكم انتقالية، وفق ما جاء في تقرير “العربي الجديد” عن “اللاورقة” الأردنية المسرّبة والمقترحة في واشنطن.
ما تم إنجازه بعد زيارة الملك عبد الله واشنطن حل ملف الجنوب لمصلحة النظام وروسيا، ومن المفترض إبعاد مليشيات إيران والفرقة الرابعة للجيش السوري، بضمانة روسية، ووعود أميركية غير خطّية، بألا تشمل عقوبات قانون قيصر كلاً من مشروعي مدّ خطوط الطاقة عبر سورية إلى لبنان، وحركة الترانزيت عبر معبر نصيب على الحدود السورية الأردنية، ومن لبنان وإليه. يستفيد النظام من هذه الإنجازات سياسياً واقتصادياً، ويسوّق، هو وداعموه، في ظل حالة التراخي الأميركي، أنه انتصر وهو قاب قوسين أو أدنى من إعادة العلاقات معه إلى سابقها.
تحتوي المبادرة المسرّبة على تناقضات و”مستحيلات”؛ فأول إشكال بشأنها غياب الحماس الروسي لهذه اللاورقة، فالملك طرح مبادرته في واشنطن أولاً، ثم ذهب إلى موسكو لإقناع بوتين بها؛ وهي تتضمّن خروج القوات الأميركية بعد مصالحة بين قوات سوريا الديمقراطية والنظام، وأن يُخرج النظام إيران ومليشياتها بطلبٍ رسمي، وأن يعود عدد القوات الروسية في سورية إلى ما كان عليه قبل 2011، وهذا البند ينسف كل ما بنته روسيا في سورية بشأن تعزيز وجودها العسكري في قاعدتي حميميم وطرطوس، وينسف مطامح توسيع نفوذها في الشرق الأوسط؛ وغير ذلك، لا يستند إلى السياسة الأميركية تجاه سورية، وهي بالضغط على روسيا لإيجاد صيغة أو حل للملف السوري، يحقق الشروط الأميركية، خصوصا بشأن محاربة الإرهاب، وأمن إسرائيل، والالتزام بقرار مجلس الأمن 2254.
غير ذلك، هناك نقاط تطلبها المبادرة أقرب إلى المستحيل، مثل أن يقبل النظام عودة آمنة للاجئين، مع وقف الاعتقال، وإخراج المعتقلين والسجناء السياسيين، والمصالحة مع المعارضة، والموافقة على تشكيل هيئة حكم انتقالية، وضمان المساءلة والتحقيق في التعذيب والانتهاكات. ومعروف أن النظام يشارك في اللجنة الدستورية من أجل عرقلتها، وليس للتقدّم خطوة إلى الأمام. يريد الطرح الأردني إعادة النظام إلى ما كان عليه قبل 2011، وهذا مستحيل؛ لأنه يتجاهل الحرب الدموية في سورية عشر سنوات، وما نتج عنها من آثار مدمّرة، حيث قتل مئات الألوف، وتشرّد نصف الشعب، ودمرت البنى التحتية على طول البلاد وعرضها، والنظام دمّر أيضاً جيشه، وبات بحكم المنهار، مع ظهور الصراعات العائلية داخله. وحوَّل سورية إلى دولة فاشلة، ولا حلول لأزمته الاقتصادية إلا بقراراتٍ أشبه “بتشليح” السوريين أموالهم. وهو عاجز عن ضبط الحدود مع الأردن، ومنع تجارة المخدّرات التي تدخل الأراضي الأردنية بالأطنان، عبر معابر غير رسمية. ولا يملك قرار إبعاد المليشيات الإيرانية عن الحدود الأردنية، لولا الثقل الروسي المؤثر فيه، ولا يملك حتى ضماناتٍ للالتزام بهذا الإبعاد؛ وبالتالي يأتي فتح معبر نصيب طريقاً إضافياً لدخول المخدّرات، عبر الممرّات الشرعية، بالاستفادة من حركة الترانزيت وطرق الغشّ التي قد تخدع عناصر التفتيش من الجانب الأردني.
الأهم من كل ما سبق أن نظام الأسد مدانٌ دولياً وأميركياً، بجرائم مثبتة ضد الإنسانية، ولا يمكن تجاوزها، سياسياً وحقوقياً وأخلاقياً، وقانون قيصر لحماية السوريين، صادق عليه الكونغرس بحزبيه الجمهوري والديمقراطي، ملزمٌ لأية إدارة أميركية، وحتى التساهلات الأميركية المعلنة أخيرا، انتهجتها إدارة بايدن، ضمن وجود انتقاداتٍ حولها في الأوساط الإعلامية الأميركية وحتى داخل الإدارة الأميركية نفسها، ولا ضمانات بعدم الانقلاب عليها إذا لم يُعَدْ انتخاب بايدن بعد ثلاث سنوات.
تحاول روسيا الاستفادة من هذه التساهلات الأميركية التي فرضها التقارب الروسي الأميركي بشأن الملف السوري؛ فبعد حسم ملف الجنوب، تسعى موسكو إلى تسوية مشابهة في الشمال الغربي، وتحاصر تركيا هناك، مستغلة أيضاً تصاعد الخلافات الأميركية التركية، وتستعد لمواجهة هجوم تركي محتمل على مناطق “الإدارة الذاتية” (الكردية). وبلغ التقارب الروسي مع الإدارة الذاتية أقصاه، وبمساعٍ أميركية، مع وعود روسية بالحفاظ على لامركزية مقبولة للإدارة الذاتية ضمن الدستور المنتظر إنجازه من اللجنة الدستورية.
لم يصل الوفاق الأميركي الروسي إلى درجة التوصل إلى تسوية نهائية؛ فواشنطن ممسكة بمنابع الطاقة في الشرق السوري، وغير متضرّرة من حالة الستاتيكو السياسية في الملف السوري، بعكس موسكو المتشوّقة إلى جني غلّة إعادة الإعمار والاستفادة من استثماراتها في سورية، لذلك تبحث عن حلول بالتوافق مع واشنطن. وتبقى عقدة الأسد مشكلة لدى موسكو؛ فالوظيفة الوحيدة التي ما زال يؤدّيها النظام هي القمع، ومنع حصول أي احتجاجات محتملة في ظل الوضع الاقتصادي المتردّي، ولا تملك موسكو بدائل، حتى من المعارضة المقرّبة منها، قادرة على أداء هذا الدور، لأن التركيبة الأمنية للنظام لا تقوم على الدولة، بل على عصابة مرتبطة بأشخاص من عائلة الأسد، وتغييره يعني انهيارها.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت