من الطريف ليس إلا أن يعبّر سوريون عن خيبتهم بسبب زيارة بشار الأسد الإمارات، وفي ذكرى اندلاع الثورة، بما يوحي بأن شيئاً من النكاية المتعمدة كان في صلب التحضير لها. ليس تنزيهاً لطرفي الزيارة على أية حال القول أن توقيتها “فوق الاعتبارات البروتوكولية” يتعلق بحسابات الطرفين السياسية، مع أرجحية للطرف الإماراتي الطامح إلى لعب دور إقليمي كبير، في حين من الشطط أن تذهب أحلام الأسد أبعد من أن يستعيد سيطرته الفعلية على سوريا.
لعله يكون عنواناً مناسباً للزيارة إذا قلنا أن بشار الإيراني كان في ضيافة “اتفاقيات أبراهام”، ولعل هذا العنوان يضعها في سياقها الأقرب إلى الصحة. من الجهة المتعلقة بإيران؛ هناك اتفاق نووي محدَّث مع إيران، إذا لم تحصل مفاجأة كبرى في الساعات الأخيرة. ومن جهة تل أبيب، هناك الاتفاق النووي المقبل، وهناك أيضاً المواجهة الغربية مع موسكو التي قد تؤثر على التنسيق الإسرائيلي-الروسي في سوريا.
لندع الاسم الرمزي لاستقبال بشار، أي “عودة سوريا إلى الحضن العربي”، فالعنوان دأب على الإيحاء بإبعاده عن طهران، وسيكون من الاستهتار الشديد بعقول مستضيفيه أن يبذلوا محاولة من هذا القبيل. التطبيع هو مع بشار كما هو، بعلاقته الوثيقة بإيران، بل بعلاقته بإيران التي من المرجح أن تزداد قوة مع توقيع الاتفاق النووي والتطبيع الأمريكي مع طهران. هي رسالة إيجابية إلى الأخيرة، وليست إطلاقاً من ضمن محاولة عربية أو خليجية للالتفاف على مناطق نفوذها.
بشار ليس حاجة إماراتية لتوصيل الرسائل المهمة إلى طهران، إلا أن التطبيع معه فيه رسالة مختلفة عن الرسائل التي لا يُستبعد تبادلها مباشرة ضمن القنوات الثنائية. ما هو مستغرب في الحديث عن “العودة إلى الحضن العربي” قيامه على أن طهران لا تريد عودة بشار إلى الحضن المزعوم، وأن موسكو تدفع في هذا الاتجاه ضمن تنافس روسي-إيراني. في الواقع، تريد طهران تطبيعاً عربياً مع بشار على علاته، وفي مقدمها النفوذ الإيراني عليه، فهذا هو الاعتراف الإقليمي الذي تسعى إليه، هذه هي لحظة الانتصار المنتظرة.
من مصلحة طهران، وموسكو أيضاً، فتح قنوات عربية مع الأسد، ومن المستحسن بالتأكيد وصول بعض المساعدات التي تنقذه من أزمته الاقتصادية الخانقة. موسكو التي تعاني من أشد العقوبات حالياً غير قادرة على تقديم المساعدات القليلة السابقة، وطهران التي ضخت مليارات الدولارات لا تريد إنفاق المزيد منها مع رفع العقوبات المتعلق بالاتفاق النووي. المساعدات “الإنسانية” التي قد تُرسل إلى الأسد هي أفضل الممكن حالياً للجميع، بما في ذلك دول خليجية غير متحمسة بسبب الظروف الحالية لتحمل نصيبها من كلفة إعادة الإعمار. في الأصل، لا تريد طهران لنفوذها أن يعيق تدفق الأموال الخليجية، والمثال اللبناني الراهن يوضح أثر الإحجام الخليجي، وما تخسره طهران بهذا الانكفاء.
لإسرائيل مصلحة في فتح قناة مع بشار الأسد عبر طرف ثالث غير الطرف الروسي، والإمارات هي أكثر طرف مؤهّل لذلك، فهي كانت القاطرة في إبرام اتفاقيات أبراهام، فضلاً عن كون الاتفاقيات من المداخل المأمولة لتلعب دوراً كقوة إقليمية. في حال فتحها، ستكون القناة الإمارتية أكثر “نزاهة” من الوسيط الروسي، فلموسكو كما نعلم حسابات تتعدى دور الوسيط، ولم تخفِ من قبل سعيها إلى الإمساك بخيوط اللعبة في سوريا.
بدورها، لا تطمح إسرائيل من خلال القناة الإماراتية إلى إبعاد بشار عن طهران، ولديها قائمة طلبات أقل جذرية وأكثر تفصيلاً، تتعلق بتوريد الأسلحة إلى حزب الله أولاً، ولديها تالياً مطالب تخص تمركز الميليشيات الإيرانية في سوريا والأسلحة التي في حوزتها، خاصة الصواريخ والمسيَّرات. المطلوب إسرائيلياً من بشار هو الاتفاق مع طهران على خريطة نفوذ تلبي المطالب الأمنية الإسرائيلية لا أكثر، بمعنى عدم ممانعة أشكال أخرى من النفوذ السياسي والأمني والاقتصادي.
حتى الوساطة بين تل أبيب وطهران لن تكون مستبعدة في المدى المنظور، والتنافس بينهما يتطلب وجود أقنية لتبادل الرسائل. الإمارات مرشحة أو طامحة للعب هذا الدور، ولو كان من الصعب احتكاره مع وجود قوى دولية وإقليمية لها حضورها أو طامحة لتثبيته. مرة أخرى، ميزة الدور الإماراتي حالياً كونه لن يتعدى الوساطة إلى المشاركة في اللعبة الكبرى للصراع على المنطقة.
الاشتباك الدولي المتعلق بحرب بوتين على أوكرانيا وترقب توقيع الاتفاق النووي هما التوقيت المناسب لتبتعد الإمارات عن الالتزام بحذافير سياسة واشنطن تجاه الأسد، وإدارة بايدن كانت سبّاقة في عدم مراعاة المخاوف الإماراتية والإسرائيلية من اتفاق مريح لطهران. الأهم أن الانتباه الدولي منصرف إلى أوكرانيا، وفي الوقت نفسه هناك غموض حول المستقبل وتوجس منه، وانشغال القوى العظمى فرصة للقوى الصغيرة كي تحاول التكسب خارج بؤرة الحدث المركزي، أما غموض المستقبل فيشجع مختلف القوى على التحوط بسياسات واتصالات أكثر تعدداً وتعقيداً من أيام الاستقرار السابقة.
تأويل استقبال بشار على النمط القديم، أي اعتبار الإمارات واجهة لسياسة دولية أوسع لا يصحّ لا لأن واشنطن تحفظت على الزيارة فحسب، وإنما لأنه لا يلحظ رغبة الجهة المضيفة بأن تكون مركزاً إقليمياً تمر عبره الرسائل، وتُبرم فيه الصفقات، بصرف النظر عن فحواها. هكذا، مثلاً، ليست المعارضة السورية ضمن حسبان السياسة الإماراتية التي تتعاطى مع الأمر الواقع، والتي سبق لها الاستثمار قليلاً في الثورة على الأسد عندما كان لها زخم واقعي وفرص بالفوز.
لا يلزم التذكير كل مرة بعدم وجود ما يمنع استقبال بشار بلا خجل في أية عاصمة عربية، فالأصل في علاقة هذه العواصم مع الشأن السوري هي الحسابات السياسية في لحظتها لا الحسابات المبدئية بالتأكيد. الحسابات السياسية لتلك الدول “تحديداً صراعها مع إيران” كانت أيضاً الرهان الأساسي للمعارضة، لذا لا معنى للوم أي نظام عربي يتصرف وفق طبيعته التي جافاها قليلاً في السنوات الماضية.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت