“نفحة هواء نقي ولكن”..هل غيّر “الشعب الجمهوري” خطابه اتجاه السوريين؟
في إحدى الحملات الترويجية لانتخابات الرئاسة والبرلمان بتركيا، خلال شهر مايو 2023، صَعد أوزغور أوزيل، الذي أصبح الآن رئيساً لأكبر أحزاب المعارضة التركية “الشعب الجمهوري”، على إحدى المنصات وخاطب الجماهير، واصفاً الوجود السوري في البلاد بـ”الاحتلال”.
وبعدما مضي عام على ذلك، خرج مجدداً إلى الساحات وعلى شاشات التلفزة، وتحدث عن ذات الملف وقضية “إزالة اللافتات العربية”، لكن بمواقف وعبارات ووجهات نظر حمّلت “نبرة تحوّل”.
لم يتطرق أوزيل خلال إطلالاته الأخيرة إلى موضوع “الوجود السوري” في تركيا، بذات النَفس الذي التزم به سابقاً مع بقية قيادات حزبه، إذ عبّر خلال الأيام الماضية عن وجهة نظر اعتبرها خبراء ومراقبون خلال حديثهم لـ”السورية.نت” كـ”نفحة من الهواء النقي”.
ونبرة الخطاب هذه، تأتي بعدما حقق حزب “الشعب الجمهوري” فوزاً ساحقاً في انتخابات البلديات التي جرت في 31 مارس 2024، على حساب حزب “العدالة والتنمية” الحاكم وحليفه حزب “الحركة القومية”.
كما أتت أيضاً بعد أيام من اجتماع أوزيل مع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في لقاء وصفته أوساط الحكومة والمعارضة بــ”التاريخي”، كونه الأول بين القطبين الرئيسيين في البلاد، منذ عام 2016.
“جزء من تغيير عام”
لا يمكن فصل التغيّر الذي طرأ على خطاب “الشعب الجمهوري” والذي عبّر عنه أوزغور أوزيل عن سلسلة التحركات التي اتبعها، في أعقاب الفوز بانتخابات البلديات، وبعد تسلمه دفة رئاسة أكبر حزب مُغارض في تركيا، خلفاً لكمال كلشدار أوغلو.
وبعد هذين الحدثين ومع تصدّره المشهد، اتجه بالتدريج إلى فتح باب “التغيير” على صعيد نقاشاته مع الحكومة، وهو ما بدا خلال لقائه مع الرئيس التركي أردوغان.
أو كنوع من الالتزام بإطار “الحملة” التي أطلقها سوية مع رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، لترميم آثار الخسارة الفادحة التي مني بها كلشدار أوغلو، في انتخابات الرئاسة، في مايو 2023.
وقبل نحو عام، كان أوزيل يعتبر أن عدد السوريين في تركيا يبلغ “10 مليون”، وقال إنهم سيكونون 17 مليوناً ثم 24 مليوناً، و”سيستخدمون أصواتهم في الانتخابات”، مشدداً على الفكرة الخاصة بحزبه بأن “تركيا أصبحت رهينة الاحتلال”.
وتزامن كل هذا مع ما وصفهُ مراقبون بـ”حملةٍ كبيرة” ينفذها رؤساء البلديات التي فاز بها حزب “الشعب الجمهوري” ضد اللغة العربية في البلاد، إذ تنتشر عشرات المشاهد المصورة لشرطة البلديات، أثناء إزالتها لأي كلمة عربية من واجهات ولوحات المحلات التجارية في الأسواق.
ورغم أن ذلك يأتي إرضاءً للحاضنة الشعبية، التي يستشعر رؤساء البلديات أنها تستحسن هذه التصرفات، نهى زعيم “الشعب الجمهوري”، رؤساء البلديات التابعين لحزبه عن إقحام ملف السوريين في أي نقاشات محلية، قائلاً:”ستلاقون استحساناً وتقبلاً أكبر عندما تهتمون بمشكلة المياه للمواطنين بدل انشغالكم بالسوريين”.
وأضاف في مقابلة تلفزيونية، أنه أبلغ البلديات الواقعة تحت إدارة حزبه، أن السياسة المتعلقة بالمهاجرين ليست مهمة الإدارات المحلية.
ومع ذلك أكد على موقف قديم – جديد يتعلق بحل قضية “الوجود السوري”، بقوله: “نريد مفاوضات مع سورية. مفاوضات مع (بشار) الأسد. نريد السلام ومشاركة الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة في ذلك وتوفير فرص العمل والغذاء والسكن”.
وتابع في إشارة منه إلى الخطة التي تعتمدها الحكومة: “وليس مجرد منازل من الطوب في الأماكن التي سيعود إليها السوريون في بلدهم”.
لماذا الآن؟
على عكس سلفه كمال كلشدار أوغلو الذي مني بخسارة أمام الرئيس رجب طيب أردوغان في انتخابات الرئاسة والبرلمان العام الماضي تمكن أوزيل من تحقيق نتائج فعلية على أرض الواقع.
أبرز تلك النتائج الفوز الساحق الذي حققه حزبه في انتخابات البلديات والأصوات التي حازها، وجعلت منه الحزب الأكبر والأول في تركيا، منحيّاً “العدالة والتنمية” إلى المرتبة الثانية، من حيث عدد المصوتين في انتخابات مارس/أذار الماضي.
ويوضح الباحث في الشأن التركي، محمود علوش، أن جانباً رئيسياً من دوافع الخطاب المناهض للسوريين كان مرتبطاً بالاستحقاقات الانتخابية السابقة.
ويقول لـ”السورية.نت”، إن “أقرب انتخابات ستكون بعد أربع سنوات هذا سيجعل القضية(السوريين) أقل أهمية في الوقت الراهن في الأجندة السياسية الداخلية”.
ويسعى أوزيل لإنتاج خطاب جديد لحزبه تجاه السوريين في تركيا، لأن “الخطاب الشعبوي علاوة على أنه لا يصلح للمرحلة الراهنة، لا يؤدي سوى إلى تعميق الهوة بين المجتمع التركي واللاجئين”.
ويضيف علوش أن رئيس “الشعب الجمهوري” يحاول أيضاً تقديم شكل مختلف لحزبه، “كحزب غير معاد للاجئين واللغة العربية”.
وعن طريق ما سبق يخاطب المحافظين أيضاً، “بهدف تعزيز قدرته على اختراق هذه الشريحة المحافظة”، وفق الباحث المختص بالشأن التركي.
“انعطافة أم توازنات وتكتيك؟”
وقد يكون “تليين” موقف حزب “الشعب الجمهوري” من قضية السوريين في تركيا مرتبطاً بحقيقة أن لديه الآن ما يكفي من الدعم الشعبي للوصول إلى السلطة للمرة الأولى، كما يشرح الباحث السياسي التركي، إسلام أوزكان.
وما سبق يخالف المسار الذي كان سائداً في وقت سابق، وخاصة خلال تنظيم انتخابات الرئاسة والبرلمان، شهر مايو 2023.
في تلك الفترة وضع زعيم “الشعب الجمهوري” السابق، كلشدار أوغلو وبقية قيادات حزبه، ومن بينهم أوزيل قضية السوريين في صدارة حملاتهم الانتخابية، الخاصة باستحقاق مايو 2023.
وحتى أنهم خيّروا الجمهور التركي ما بين التصويت لهم أو “إغراق البلاد باللاجئين”، مؤكدين في ذات السياق على ادعاءاتهم بأن وجود السوريين “احتلال”.
ويرى الباحث أوزكان أنه “لا يمكن القول إن أوزيل وحزبه اتخذ موقفاً متشدداً للغاية أو انعطافة كاملة بشأن السوريين. بل يمكننا القول إنه تجنب اتخاذ موقف واضح”.
وعلاوة على ذلك فإن “عدم إحراز أي تقدم في العلاقات مع إدارة دمشق (نظام الأسد) وحقيقة أن سيناريو العودة الكاملة للاجئين إلى الوطن أصبح غير واقعي بشكل متزايد ربما دفع حزب (الشعب الجمهوري) إلى تغيير موقفه”، وفق قول أوزكان.
الباحث السوري المقيم في تركيا نادر الخليل، يشير من جهته، إلى دوافع أخرى تقف وراء حالة “التلطيف” التي عكسها “الشعب الجمهوري” بخطابه الجديد تجاه اللغة العربية واللاجئين.
ويوضح لـ”السورية.نت” أن “للغة العربية دلالات دينية للكثير من المحافظين في البلاد”، وبالتالي يحاول أكبر أحزاب المعارضة “توسيع قاعدته الانتخابية والاستعداد للانتخابات القادمة في 2028”.
وقد يكون “التليين” أيضاً استراتيجية من جانبه لجذب شرائح جديدة من الناخبين، كانت سلكت نهجهاً عقابياً تجاه “العدالة والتنمية”، في ضوء التحديات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.
إضافة إلى شريحة أخرى تخلت عن تأييد “حزب الجيد” القومي، وثالثة “مترددة”، وفق الباحث الخليل.
“نفحة هواء نقي.. ولكن”
وفقاً لوكالة الأمم المتحدة للاجئين، يعيش الغالبية العظمى من السوريين في تركيا وعددهم 3.6 مليون تحت “وضع الحماية المؤقتة”، وفي غضون ذلك حصل نحو 200 ألف منهم على الجنسية التركية، بحسب أرقام حكومية.
وكانت نبرة التحريض ضدهم قد تصاغدت قبل تنظيم الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة والبرلمان في مايو 2023.
ورغم أن الحكومة نفذت سلسلة إجراءات تقييدية استهدفهم تنظيم وجودهم، ازدادت جرعة التحريض على نحو أكبر مع انتقال البلاد إلى الجولة الثانية. وكان على رأس مسار التحريض زعيم “الشعب الجمهوري” السابق، كمال كلشدار أوغلو.
ويعتقد الباحث أوزكان أن “التغيير في القيادة والكوادر والموقف داخل (الشعب الجمهوري) جلب نفحة من الهواء النقي، وأدى إلى إعادة النظر بجدية في السياسات القديمة”.
ومع ذلك يؤكد أن “الشعب الجمهوري” المعارض لا يزال يعاني من “أوجه قصور”.
ويشرح أوزكان أنه “لا يزال هناك قدر كبير من عدم اليقين خاصة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية”.
وحتى لو كان هناك تغيير في الموقف الحالي من اللاجئين، يرى الباحث أن ما يجري يندرج ضمن نطاق “المواقف المتناقضة إلى حد ما”، وما يعزز ذلك “الارتباك المستمر ضمن البيت الداخلي للحزب المعارض”.
ويرجع ذلك إلى التناقض والصراع بين الخط الأيديولوجي الاشتراكي الديمقراطي والخط القومي الكمالي داخل الحزب.
وفي حين أن الاشتراكيين الديمقراطيين “أكثر صداقة للاجئين”، فإن الكماليين “أكثر تصادمية”، كما يشير الباحث أوزكان لـ”السورية.نت”.
ويؤكد على ما سبق الباحث السياسي نادر خليل، مشيراً إلى أن السؤال سيبقى مفتوحاً حول مدى استمرار التغيير داخل “الشعب الجمهوري”، في ظل تضارب الأفكار والتوجهات الداخلية ضمن بيته الداخلي.
كما يوضح أن هناك تنافساً داخل الحزب المعارض بين جناحين، الأول يقوده أوزيل والثاني عمدة إسطنبول، أكرم إمام أوغلو.
“دوافع أعمق”
وبفوزه الساحق في انتخابات البلديات الأخيرة ارتفعت أسهم “الشعب الجمهوري” في البلاد، وحتى أنه بات الحزب الأكبر، من ناحية الكتلة التصويتية.
ويشير فوزه الأخير بحسب الخليل إلى “نقطة تحول مهمة”، حيث ظهرت قدرته على السيطرة على معاقل تقليدية لـ”العدالة والتنمية”، ونمواً تصويتياً لصالحه بنسب غير مسبوقة.
بالإضافة إلى الدوافع والأسباب السابقة يرى الخليل أن أوزيل وبخطابه الجديد يسعى لتحقيق توازن بين الحفاظ على مبادئه الأساسية، والحاجة للتكيف مع المتغيرات السياسية والاجتماعية، لتعزيز فرصه في الانتخابات القادمة.
وعلى المدى القصير يبدو خطابه “تكتيكياً”، إذ يتوقع الباحث السوري أن الأمر سيبقى مثار شد وجذب خلال الأشهر والسنوات المقبلة، إلى أن يأخذ سمة نهائية قبل موعد انتخابات الرئاسة 2028.
ولا يستبعد نفس المتحدث أيضاً، أن يكون “تلطيف الخطاب اتجاه السوريين” جاء نتيجة الضغوط الاقتصادية الكبيرة التي تعاني منها تركيا، ما دفع “الشعب الجمهوري” إلى اعتماد نهج أكثر شمولية وبراغماتية لجذب وكسب الناخبين الذين يشعرون بالاستياء من الوضع القائم.
ويمكن أن يكون مرتبطاً بجملة عوامل سياسية واستراتيجية أخرى، في مسعى من أوزيل إلى “تعزيز موقفه السياسي على المدى الطويل، خاصة بعد الفوز الكبير في انتخابات البلديات الأخيرة”.
وقد يحاول أوزيل أيضاً “كسب شرائح جديدة من المحافظين في الأناضول والناخبين من أصول عربية ونسبة من الأكراد”، وهو ما يمكن اعتباره محاولة لبناء قاعدة تصويتية أوسع، استعداداً للانتخابات الرئاسية القادمة، كما يقول نادر الخليل.
و”التكتيك” المذكور كان قد اتضح أكثر بعد نجاح تجربة التحالف مع حزب “الشعوب الديمقراطي” (HDP) في الانتخابات البلدية، وهو ما ساهم بشكل كبير في فوزهم بإسطنبول وأنقرة.