أحدث الانتشار الكبير والسريع لفيروس كورونا صدمة على المستوى العالمي، تجلّت في ارتباك الحكومات، خاصة في الدولة المتقدّمة اقتصادياً وتكنولوجياً في أساليبها للتعاطي معه، خصوصا في الفترة الأولى لانتشار المرض، حيث أنتج الوباء نماذج سلوكية متباينة لدى السياسيين في العالم، مستندة لمرجعيتهم الأيديولوجية، قبل أن ينتظم العالم أجمع ضمن خطة موحدة لمواجهة كورونا. يحاول المقال تحليل المواقف الحكومية في الاستجابة للوباء؛ عبر اختيار ثلاثة نماذج، ينتمي اثنان منها للديمقراطية الليبرالية، والولايات المتحدة وبريطانيا، والثالث هو النظام السوري رمز الفاشية والديكتاتورية بلا منازع اليوم. حيث يشترك رأسا الهرم السياسي في الولايات المتحدة وبريطانيا في انتمائهما لليمين القومي الشعبوي، وإنْ بدرجات متفاوتة، وهنا مبرر اختيار بشار الأسد الذي بات أحد رموز اليمين المتطرّف في الغرب من ناحية، كما أن تعاطيه مع أزمة كورونا يندرج ضمن المرجعية الأيديولوجية نفسها، الداروينية الاجتماعية، والتي يتم استخدامها هنا في تحليل سلوك الشخصيات الثلاث، بوصف هذه المرجعية مرتكزا أخلاقيا لمواقفهم.
لم تحظ نظرية علمية خلال التاريخ الحديث بما حظيت به نظرية داروين في التطور العضوي من أصداء واسعة عابرة لنطاق التخصص العلمي، لتعيد توجيه الفكر الإنساني في كل مجالاته، من الفلسفة إلى علم النفس وعلم الاجتماع والأدب والأنثروبولوجيا والسياسة والاقتصاد. وعلى الرغم من أن داروين حاول، في كتابه “أصل الأنواع”، تجنّب تطبيق النظرية على الإنسان؛ إلا أن معتنقي النظرية أوجدوا لها تطبيقاتٍ أحدثت تغييراتٍ جذريةً حادّة في كل النظم المعرفية للإنسان، منهم رائد الداروينية الاجتماعية، الفيلسوف الإنجليزي هربرت سبنسر، والذي تبنّى تطبيق نظرية داروين على الأخلاق والحضارة والمجتمع الإنساني، وهو صاحب عبارة “البقاء للأصلح”، وهو يعتبر أن تقدّم الأقوياء وسقوط الضعفاء من الشيوخ والمرضى والمجانين والعاطلين عن العمل هو نتيجة ضرورية لقانون مستنير نافع، والدولة إذ تحاول وقف هذا القانون الحكيم، بدافع من حب زائف للإنسانية، تزيد في مقدار الألم، بدلا من أن تُنقص منه، وتعمل على تدهور المجتمع بدلا من تقدّمه. كما يعتبر سبنسر أن بعض المجتمعات البشرية استطاعت التقدّم تكنولوجياً واقتصادياً، مقارنة بباقي المجتمعات المتخلفة. وعليه، فإن استعباد أبناء المجتمعات المتخلفة أمر مباح لأبناء المجتمعات المتقدّمة، بل إن فناء تلك المجتمعات المتخلفة أمر حتمي لا مفرّ منه. وتكتمل المنظومة الفكرية للداروينية المتطرّفة في فلسفة نيتشه الذي يطالب بالقضاء على الأخلاق الدينية، المتمثلة في الأخلاق المسيحية، والتي يعتبرها أخلاق العبيد، واستبدالها بأخلاق السوبرمان أو الإنسان الأعلى؛ وهو الإنسان القوي الذي تكون غايته الفوز، ويأبى أي شفقة على المساكين. وبالتالي تخلّص المجتمع من ثقافة المنحطين الضعفاء التي أنتجتها الحضارة الإنسانية، والتي هي بالأصل تعود إلى اليهود؛ لتسود مكانها ثقافة الأقوياء السادة.
يمكن اعتبار هذين المثالين كافيين لتقريب فكرة الداروينية الاجتماعية وفلسفتها الأخلاقية التي أزاحت الإنسان من مكانته السامية مركزا للكون، كما صوّرته الأديان، وحولته إلى سلعة في سوق المنافسة التامة الذي نشأ على أسس البقاء للأقوى، والانتقاء الطبيعي التي أرستها الداروينية. وبالتالي، تمّت ترجمة تلك المبادئ الداروينية اقتصادياً إلى الليبرالية الاقتصادية أو السوق الحر، والتي يمثلها اليوم النموذج الأنغلو – أميركي لليبرالية، والذي يسميه اليساريون بالنيوليبرالية، وهي ليبرالية يمينية محافظة، تقوم على مبدأ تقليص دور الدولة إلى حدود إزالة الحواجز المعيقة للمنافسة التامة في السوق، وبالتالي خفض الضرائب، وتحديد دور القطاع العام بخدماتٍ قليلة جداً، وهي بذلك ليبرالية مختلفة عن النموذج الأوروبي الذي يسمّى الليبرالية المنضبطة أو النموذج الألماني أو اقتصاد السوق الاجتماعي، والذي يمكن اعتباره أكثر إنسانيةً بشكل كان واضحاً في خطط الدول التي تنتهجه في مواجهة فيروس كورونا. حيث اتجهت دول، مثل ألمانيا وفرنسا، من دون تفكير أو جدال، نحو تطبيق العزل الاجتماعي، ورصد مبالغ ضخمة لدعم الشركات والأفراد الذين يمكن أن يتأثروا بتلك الإجراءات، في سلوكٍ يعكس إعلاء قيمة الإنسان فوق أي قيمة أخرى.
وفي حالة النموذج الأنغلو – أميركي، السلوك مختلف، ففي الحالة الأميركية تجلت الداروينية الاجتماعية في أبشع صورها، في عرض ترامب شراء حقوق الملكية الحصرية للقاح ألماني ضد فيروس كورونا، على أن يقتصر تطبيقه على أميركا وحدها قبل بقية الدول، وهو ما يعد الانعكاس الحقيقي لمدى عنصرية شعاره “أميركا أولاً”، والذي يحمل معاني تفوّق للعرق الأميركي الأبيض على باقي الأعراق، سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها، بشكلٍ يجعل إنقاذهم من فيروس كورونا أولويةً وأكثر أهمية من إنقاذ غيرهم. ويمكن الاستناد في هذا التفسير الدارويني لعرض ترامب إلى سجله الحافل بالتصريحات العنصرية، والتي لا يتسع لها المجال هنا. وتحيلنا داروينية ترامب إلى سؤال مهم بشأن برنامجه السخي لدعم الأميركيين داخلياً في مواجهة كورونا، إذ كيف لشخصٍ دارويني اجتماعي أن يوافق على برنامجٍ يدعم الفئات الأضعف في المجتمع؟ الجواب يكمن في براغماتية التيار الشعبوي، وقابليته لتقديم تنازلاتٍ أيديولوجيةٍ إذا اقتضت المصلحة؛ فترامب اليوم على أعتاب انتخابات. ومن منظوره، البرنامج الحكومي لمواجهة فيروس كورونا دعاية انتخابية مجانية له، حيث سيقدّم رشوة عبر هذا البرنامج لكل ناخب أميركي بشكل شيكات الدعم الحكومي، وهي مصلحةٌ تستحق أن يتنازل من أجلها عن مبادئه الداروينية، وهو أمر جيد للأميركيين، حيث يصدق كلام آدم سميث هنا، عندما يتحدّث أن الإنسان، في سعيه، إلى تحقيق مصالحه الشخصية؛ فهو يحقّق مصالح المجتمع، فترامب اليوم في سبيل الفوز بولاية ثانية سيقدّم الدعم الحكومي للفئات التي يحتقرها داخل المجتمع الأميركي، كالملوّنين والنساء والعاطلين عن العمل من غير القادرين على تحمّل تكاليف التأمين الصحي، وهو الشخص الذي كان في مقدمة أولوياته إلغاء قانون أوباما كير، والذي يهدف إلى توفير الضمان الصحي لأغلبية الأميركيين بأسعارٍ قليلة ومنطقية، خصوصاً لمن ليس لديهم أي تأمين صحي مغطّى من شركةٍ ما، حيث حاول الديمقراطيون الدفاع عن هذا القانون، بناءً على اعتقادهم أن الصحة ليست سلعة، ورفضه الجمهوريون داعمو ترامب، بدعوى أن الصحة سلعة، وتخضع لقانون العرض والطلب.
وعلى الجانب الآخر من النموذج الأنغلو – أميركي، حاول رئيس الحكومة البريطانية، بوريس جونسون، انتهاج سياسة مناقضة لأوروبا في مواجهة الفيروس، التزاماً منه، على ما يبدو، بنهج بريكسيت، واختار استراتيجية “مناعة القطيع”، حيث رفض إغلاق الحانات والمطاعم والمسارح ودور السينما وصالات الألعاب الرياضية، لإبطاء الانتشار المتسارع للمرض، أياما بعد فرض دول أوروبية أخرى إغلاقا للبلاد، وطلب من البريطانيين الاستعداد لتوديع أحبتهم مبكّراً نتيجة انتشار الفيروس، والذي ستسمح خطته بانتشاره في المجتمع لاكتساب مناعة ضده. وهنا تكمن الداروينية في فكرة مناعة القطيع التي ترى في الأمراض فرصةً لتطور المجتمع، وتحوله إلى مجتمع أفضل، عبر التخلص من الضعفاء؛ فعلى الرغم من محاولة فريق جونسون تبرير الخطة علمياً، إلا أنها تعرّضت لانتقادات علمية دحضتها، كما أثارت ردود فعلٍ غاضبة شعبياً وإعلامياً، ما دفع جونسون إلى التراجع عنها، والاعتراف بخطئها وبضرورة اتخاذ إجراءات صارمة لمواجهة انتشار “كوفيد 19”. ولم يفت جونسون أن يستغل إصابته بالفيروس، ليقدّم خطاباً للشعب البريطاني، يظهره بمظهر الزعيم الذي يعيش معاناة الناس، ويواظب على خدمتهم على الرغم من إصابته، في خطوة تعكس مدى براغماتية الشعبويين، ومرونتهم في تغيير مواقفهم.
وبعيداً آلاف الكيلومترات عن بريطانيا وأميركا، يظهر النموذج الدارويني الثالث، بشار الأسد الذي أصبح بإجرامه رمزاً يحظى بدعم اليمين المتطرف في أميركا وأوروبا، إضافة إلى اليسار الشعبوي، والذي ينسجم خطابه مع خطاب الأسد الذي يعتبر أنه يواجه مؤامرة غربية. عبّر الأسد عن داروينية اجتماعية متطرّفة جداً في أحد خطاباته في العام 2017، حيث اعتبر فيه أن “سورية خسرت خيرة شبابها وبنيتها التحتية، ولكنها ربحت مجتمعاً أكثر صحةً وأكثر تجانساً، وهذا التجانس هو أساس الوحدة الوطنية”، أي أنه يعتبر أن نصف مليون قتيل واثني عشر مليون مهجر أمر إيجابي للوصول إلى المجتمع الخالي من أي صوت يعارض ديكتاتوريته. وبناء على هذا التصور الدارويني لدى الأسد؛ يبدو أن إنكار حكومته انتشار فيروس كورونا في سورية وتأخرها في اتخاذ إجراءات لمكافحته، يندرج في إطار نظرة الأسد إلى ما قد يحدث من كارثة، جرّاء انتشار الفيروس في دولة، مثل سورية، على أنه فرصة للتخلص من الضعفاء وكبار السن، ممن لا يستطيع الأسد تجنيدهم في جيشه، وبذلك يكتسب مجتمعا أكثر صحية، كما أنه، على ما يبدو، مثل حلفائه في إيران، يرى في حدوث كارثة إنسانية داخل سورية نتيجة انتشار الفيروس فرصة للدفع باتجاه رفع العقوبات عن نظامه أو تخفيفها، وهو الأمر الذي أثبتته تغريدة الحاكم الفعلي للإمارات، محمد بن زايد، عبّر فيها عن نيته دعم نظام الأسد في مواجهة انتشار الفيروس، إذ يبدو أن الفرصة اليوم مواتية لمحور الإمارات مصر السعودية لتجاوز المنع الأميركي للتطبيع العربي مع نظام الأسد، بدوافع إنسانية مرتبطة بانتشار الوباء.
تشترك النماذج الثلاثة في تعاطيها مع أزمة فيروس كورونا في مرجعية فكرية واحدة، الداروينية الاجتماعية. وليس هذا التشابه غريباً، بالنظر إلى أن الثلاثة ينتمون إلى التيار القومي الشعبوي، بوجهيه اليساري واليميني، فبشار الأسد ينتمي إلى حزب البعث، القومي الشعبوي المعادي للغرب الإمبريالي، وهم من النوع المفضل للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، والذي يدعم صعود التيار القومي الشعبوي في أوروبا وأميركا، الأمر الذي يشير إلى ما يشكله صعود اليمين الشعبوي من خطر حقيقي على الديمقراطية الليبرالية، خصوصا في نسختها الأنغلو – أميركية، والتي تزداد ابتعاداً عن النسخة الأوروبية بعد “بريكسيت” وسياسات ترامب الحمائية تجاه الاتحاد الأوروبي وموقفه من حلف شمال الأطلسي (الناتو). وبالتالي، يمكن النظر إلى أزمة انتشار فيروس كورونا بوصفها تحدّيا جديدا تعيشه الديمقراطية الليبرالية الأنغلو – أميركية، يشير إلى الجذور الحقيقية للأزمة التي تعيشها، فصعود اليمين الشعبوي وروسيا والصين وأزمة المهاجرين والحمائية، ما هي إلا أعراض لخلل بنيوي، يعتري الأسس النظرية لهذا النموذج. ويكمن هذا الخلل في أن النموذج الأنغلو – أميركي يتخذ طابعاً يمينياً محافظاً داروينيا، وبذلك هو بيئة خصبة لصعود اليمين القومي الشعبوي، إضافة إلى حاجته لمزيد من الأنسنة الاقتصادية والاجتماعية بشكلٍ يقارب النموذج الأوروبي.
هذا على المستوى الداخلي، وعلى المستوى الخارجي، تحتاج الديمقراطية الليبرالية عموماً إلى إعادة فهم نفسها بوصفها فلسفة إنسانية وليست غربية، بمعنى التخلي عن نزعة التفوق العرقي التي تشكل الركيزة التي يستند إليها التيار المعادي لها في العالم، وبالتالي دعم الشعوب غير الغربية في سعيها إلى التحول الديمقراطي، على اعتبار أن الديمقراطية صيغة حكم إنسانية عابرة للأعراق والأديان، ومناسبة لكل الشعوب، أي بمعنى أدق، الخروج من عقلية صراع الحضارات إلى عقلية حضارة إنسانية تعتمد قيماً موحدة تُعلي من شأن الإنسان. وهنا الحاجة إلى إنقاذ العولمة الثقافية أولوية لإنقاذ العولمة الاقتصادية، وهو أمر لن يتم إلا بإعادة الاعتبار لقيمة الإنسان، بوصفه محور تلك الثقافة المعولمة، وذلك عبر وقف الكارثة الإنسانية والمذبحة المستمرة في سورية منذ تسع سنوات بداية لمحاولة إنقاذ الديمقراطية الليبرالية، وإلا سيكون العالم في مواجهة فيروس صيني سياسي أشد فتكاً من كورونا، يقوم على المزج بين الديكتاتورية والانتعاش الاقتصادي.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت