كثرت التكهنات والتوقعات باقتراب قيام تركيا بعملية عسكرية جديدة في الشمال السوري ضد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، التي تشكل “وحدات حماية الشعب” الكردية عمادها الأساسي، وذلك بناء على تصريحات عدد من المسؤولين السياسيين والعسكريين الأتراك، وعلى رأسهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إضافة إلى موافقة البرلمان التركي على تمديد الصلاحية الممنوحة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان عامين إضافيين، لتنفيذ عمليات عسكرية في سوريا والعراق، اعتباراً من 30 تشرين الأول/ أكتوبر 2021، وعلى أثرها أرسل الجيش التركي تعزيزات عسكرية كبيرة إلى مناطق إدلب وريف حلب وتل أبيض، فضلاً عن حالة الاستنفار العسكري الذي أعلنته قسد بين صفوفها، والاستعدادات الميدانية لفصائل المعارضة السورية المسلحة المدعومة من قبل تركيا.
ولا يخفي مسؤولون أتراك أن الهدف من العملية العسكرية التركية المتوقعة هو إبعاد عناصر “قسد” مسافة 30 كم إلى داخل عمق الأراضي السورية على طول الحدود، وإضعافها في مناطق شرقي الفرات وغربه، وذلك رداً على الهجمات والاستهداف المتكرر للجنود الأتراك من قبل الوحدات الكردية المسيطرة على تلك المناطق، وخاصة في ريف حلب القريبة من بلدة تل رفعت ومدينة منبج وتل أبيض. وتذهب تقارير إعلامية إلى الحديث عن حيثيات وأهداف العملية المرتقبة في شمالي سوريا، حيث يحدد بعضها هدفها في “تشكيل حزام أمني جديد” لحماية المناطق التي توجد فيها قوات تركية في الشمال السوري، و”اتخاذ الخطوات اللازمة لتدمير الأهداف الاستراتيجية داخل الخط الآمن”، فيما تتحدث تقارير أخرى عن أنها ستشمل مناطق تل رفعت، ومنبج، وعين العرب (كوباني)، والمالكية.
ويلقي القادة الأتراك باللائمة على كل من روسيا والولايات المتحدة بعدم تنفيذ الاتفاقات والتفاهمات معها بخصوص إبعاد قسد عن المناطق الحدودية، حيث اعتبر وزير الخارجية، مولود جاويش أوغلو، أن كلتا الدولتين “لم تفيا بتعهداتهما” بعد عملية “نبع السلام” بخصوص إبعاد مسلحي قسد عن الحدود التركية، وأنهما “تتحملان مسؤولية الاعتداءات” على القوات التركية، الأمر الذي يتوجب على بلاده بأن “تقوم بكل ما يلزم” لوقفها، بما في ذلك قيامها بشنّ عملية عسكرية بشكل منفرد إذ تطلَّب الأمر.
ويبدو أن المسؤولين الأتراك باتوا مقتنعين بأن روسيا والولايات المتحدة تماطلان في ذلك من أجل الضغط على تركيا، بالرغم من تضامنهما الظاهر معها لدى تعرض جنودها للاستهداف، لكن الأمر يعود في الأساس إلى مصالح الدولتين ومناطق نفوذهما في سوريا، وإلى صعوبة توفر توافقات روسية أميركية مشتركة تراعي في نفس الوقت مصالح تركيا، خاصة أن روسيا تتمسك ببعض المناطق، مثل تل رفعت، بوصفها قاعدة عمليات متقدمة لها يمكن أن تستخدمها بشكل دائم للضغط على تركيا، في حين أن الولايات المتحدة تعتبر قسد والوحدات الكردية حليفها الذي استخدمته في الحرب على تنظيم “داعش”، وترى أنها بحاجة إليه لمنع عودة التنظيم الإرهابي.
غير أن الإشكال الذي يواجه الأتراك، ويجعلهم في حالة إرباك، هو أن أي عملية عسكرية تركية على الوحدات الكردية في مناطق شرقي الفرات أو غربه، ستصطدم بمناطق نفود كل من الولايات المتحدة وروسيا، الأمر الذي يفسر تريثهم في انتظار الضوء الأخضر من طرف الولايات المتحدة وروسيا للقيام بعمليتهم العسكرية، وبالتالي من المستبعد أن تقوم تركيا بعملية عسكرية واسعة منفردة في حال عدم حصولها عليه، وقد يقتصر الأمر على عملية محدودة، وقصيرة الأجل، تستهدف مناطق وجود الوحدات وقسد من دون السيطرة عليها، وذلك من أجل إلزام موسكو وواشنطن بتنفيذ التفاهمات السابقة أو إبرام تفاهمات جديدة تأخذ في الحسبان المطالب الأمنية التركية، المبنية على منع قيام كيان لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني التركي، في مناطق شرقي الفرات وبالقرب من حدودها الجنوبية.
ويعول الساسة الأتراك على نتائج اللقاء، الذي عقد في روما ما بين الرئيس الأميركي جو بايدن ونظيره التركي رجب طيب إردوغان، على هامش قمة العشرين، بالنظر إلى أهميته في تحسين العلاقات المتردية بين الدولتين، كونه جرى في أجواء إيجابية، لكن الإشارة إلى أن اللقاء تناول المسار السياسي في سوريا يلقي بظلاله على احتمالات العملية العسكرية وممكناتها، والتي ستظهر خلال الأيام القليلة المقبلة. وفي مطلق الأحوال فإن قيام تركيا بشن العملية بشكل منفصل وأحادي الجانب قد يحمل مخاطر سياسية وميدانية، وربما تحقق تركيا منها بعض المكاسب الميدانية، لكن يجب على القادة الأتراك موازنتها مع حجم المخاطر والكلفة الكبيرة والتداعيات المتوقعة لأي عملية موسعة ومتدحرجة منفردة، خاصة أن العمليات التركية السابقة في الشمال السوري، سواء “درع الفرات” أم “غصن الزيتون” أم “نبع السلام”، تمتّ بحصول توافقات مع روسيا والولايات المتحدة، وبشكل مكنها من تحويل ما صرفته عسكرياً إلى منجز سياسي وفق تفاهمات لاحقة، وربما يلجأ الساسة الأتراك إلى التلويح بالخيار العسكري كمجرد ورقة ضغط على الإدارة الأميركية للحصول على مكاسب ميدانية.
ولا شك في صراع النفوذ والمصالح الذي تخوضه القوى الدولية المتدخلة في سوريا، يتضمن مقايضات وصفقات، خاصة أن روسيا تريد الهيمنة الكاملة على الأراضي السورية، وجعلها قاعدة نفوذها في منطقة البحر المتوسط، لذلك لن تقدم أي شيء إلى تركيا دون مقابل في مناطق إدلب، وخاصة على جانبي الطريق “إم 4”. أما الولايات المتحدة التي تتبع سياسة الانسحابات من الحروب البعيدة والمديدة، فإنها تولي أهمية لملفات أخرى عالقة وموضع خلاف مع تركيا، وخاصة ملف منظومة الصواريخ “إس 400″، وملف الطائرة “إف – 35″، الأمر الذي يشي بأن العملية العسكرية والتفاهمات حولها مرتبط بترابط وتداخل قضايا وملفات عديدة بين الدول المتدخلة في القضية السورية، مع الأخذ بعين الاعتبار الحسابات الأخرى المتعلقة بالأوضاع السياسية والاقتصادية في داخل تركيا، وتلك المتعلقة بالطرفين الأميركي والروسي.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت