منذ عام 2016 خرج هذا المصطلح من التداول، بعد أن كان العنوان الرئيس لسنوات الثورة الأولى. فقد أدت سياسة الأرض المحروقة التي اتبعتها القوات الروسية، والجرائم المرعبة التي ارتكبتها مليشيات إيران وعصابات الأسد، إلى تفكيك أطواق الحصار التي ضربها الثوار على قصر الأسد، ونجاته تالياً من مصير يشابه مصائر الطغاة في ليبيا واليمن وتونس.
نجا الأسد من السقوط على يد الثوار، ولكن بأثمان باهظة كانت حصيلتها استحالة نهوض سوريا من ركامها ومن تمزق أنسجتها الوطنية، مع بقائه في السلطة، رغم مطالبة روسيا وإيران المجتمع الدولي بالتحلي بالواقعية والنظر للحدث السوري من زاوية انتصار الأسد؛ وطي صفحة الماضي والهروع لمده بالمساعدات الاقتصادية والدعم السياسي.
لكن من المفارقة أن دمار سوريا ومواتها، الوسيلة التي تم بها إنقاذ الأسد من السقوط، هي ذاتها التي ستقتلعه من السلطة، وقد تكون السبب في مقتله، في حال لم يجد الروس طريقة مناسبة لإخراجه، في محاولتهم للهروب من شبح الغرق في مستنقع سوريا الذي بدأ يلوح في الأفق.
تثبت جولة وزير الخارجية سيرغي لافروف أن روسيا استنفذت كل محاولاتها لتعويم الأسد، وربما وصلت لقناعة باستحالة تحقيق هذا الأمر، لذا بدأت في البحث عن مخارج تجنبها التورط في سوريا، التي يبدو أنها مقبلة على أيام صعبة، ما يؤشر إلى وجود تقديرات روسية باحتمال حصول ثورة جياع في بلد لم يعد قادراً على تأمين وجبات الطعام لأبنائه.
تدرك روسيا أن أي استجابة إقليمية أو دولية لطلباتها بتقديم المساعدة لنظام الأسد، ومهما كانت الأطراف متحمسة لفعل ذلك، إلا أن الأمر لن يحصل إلا بعد وقت طويل، نتيجة تشابكات وتعقيدات الملف السوري، في حين أن الوضع في سوريا بات بحاجة لإسعافات عاجلة جداً، كما تدرك استحالة إمكانية إعادة تأهيل الأسد، الذي بات يواجه آلاف التهم، والدعاوى التي تقوم بها دول ومنظمات دولية وحقوقية تملك مئات الآلاف من الوثائق التي تثبت إجرامه، ما يعني احتراق محاولة روسيا لإعادة تأهيله، وتحوّلها إلى عملية عبثية وغير منطقية.
وتدرك روسيا أنها تلعب في فضاء سياسي معقّد، تقابلها أطراف لديها استراتيجياتها، وتملك خبرات واسعة في إدارة الألعاب السياسية، وخاصة في إيصال الخصم إلى حائط مسدود واستنزاف قدراته وإضعافه. إذ يكشف لجوء روسيا إلى اتهام الغرب بالتآمر عليها بشكل دائم؛ إحساسا روسيا بالضعف تجاه تفوق الغرب في التخطيط السياسي والاستراتيجي عليها. وتعرف روسيا أكثر من غيرها محدودية إمكانياتها وضعف خياراتها في مواجهة تكتل يضم أمريكا وأوروبا، لذلك تعيش بشكل دائم، على المستويات الدبلوماسية والأمنية، حالة من اليقظة والحذر، وتحديث تقديراتها الخاصة بسياساتها واستراتيجياتها.
المؤكد أن روسيا التي تطرح نفسها لاعباً دولياً مؤثراً؛ يهمها بدرجة كبيرة تسويق هذه الصورة، في مناخ دولي شديد التنافسية والاستقطاب، وتجهيز الأدوات اللازمة لإنجاح ذلك، مع ما يعنيه من إزاحة لكل أسباب الفشل واحتمالاته. وعلى رأس تلك الأسباب بناء السياسة على أسس عاطفية واتخاذ القرارات المصيرية تحت تأثير عاطفي، والركون بدل ذلك إلى مراعاة الأولويات لتحقيق المصالح الاستراتيجية.
لم تكن روسيا، منذ البداية، في وارد المفاضلة بين بقاء الأسد وإنجاز أهدافها الاستراتيجية، بل حاولت دمج هذا البقاء في صلب مصالحها الاستراتيجية باعتباره عاملاً مساعداً على تحقيق هذه الأهداف. وذهبت التقديرات الروسية إلى وجود احتمالية بجعل العالم المتعب من الأزمة في سوريا يقبل ما تطرحه روسيا، كما (وذلك واضح من خلال إسلوب إدارتها للازمة في المرحلة الماضية) أنها تملك هامشا من الوقت يتيح لها فرض رؤاها وتصوراتها للحل السياسي في سوريا.
اليوم تقف سوريا على عتبة انفجار، فمصادر المخاطر على نظام الأسد باتت عديدة، وقد تأخذ شكل أكثر من سيناريو، كثورة جياع مثلاً، أو انقلاب عسكري، او حصول فوضى عارمة وفقدان السيطرة على الأمن. ورغم القبضة الأمنية الحديدية وهندسة الجيش بحيث يستحيل حصول عملية انقلاب، إلا أن الواقع وتسارع الانهيار يدفعان روسيا إلى إعادة حساباتها والبحث عن مخارج من ورطة باتت تقف على أعتابها في سوريا.
مصادر مواكبة لزيارة وفد “حزب الله” إلى موسكو أكدت أن لافروف قال للوفد، الذي ذهب للاطمئنان على مصير الأسد أن ترشح الأسد لولاية جديدة غير مضمون. وقبل أيام نشر رامي الشاعر، الدبلوماسي المقرب من الكرملين، رسائل بين الأسد والقيادة الروسية، وكان فحوى هذه الرسائل أن القيادة الروسية كانت تطلب على الدوام من الأسد أن يكون مرناً ويتعامل بسياسة واقعية مع تطورات الأحداث السورية، في حين أنه كان يصر على اتباع النهج العسكري في التعامل مع الحدث، وكأن روسيا تريد القول للأسد: يداك أوكتا وفوك نفخ، وأنه آن الأوان للتركيز على مصالحنا التي أصبحتَ عبئاً عليها.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت