أعادت الأوساط الإعلامية تداول مبادرات قديمة جديدة، بشأن تشكيل مجلس عسكري في سورية؛ بعضها يقول بتولي ضباطٍ الحكم من الحرس القديم للنظام، وبعضها الآخر يسمّي شخصيةً بعينها لقيادة المجلس، العميد مناف طلاس. لا معلومات دقيقة عن جدّية تلك الطروحات، لكنّ اللحظة الراهنة استوجبت التوقف عندها، والأخذ بنقاشها على محمل الجد. خيار موسكو بالتمسّك ببشار الأسد بات اليوم محفوفاً بخطر انهيار مفاجئ داخل النظام، مع تفاقم الأزمة الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية، وخصوصا مع تصاعد الدعوات إلى الاحتجاج في الساحل السوري، والذي يشكّل كتلة اجتماعيةً متماسكةً ووازنة، ومؤثرة على استقرار النظام. من هنا، كان الانتباه الروسي لخطورة المسألة، حيث وجه السفير الروسي، وممثل الرئيس بوتين في دمشق ألكسندر يفيموف، رسالة يحذر فيها النظام من خطورة الوضع الاجتماعي مع التدهور الاقتصادي المتصاعد، قبيل الانتخابات الرئاسية.
وصلت المسارات الدستورية والسياسية إلى إعلان الفشل، وتوقفت العملية العسكرية كلياً، ما دفع روسيا إلى العودة إلى خيار التلاقي مع الدول الضامنة في أستانة، وإحياء حلف ثلاثي ضد السياسات الأميركية في سورية، بعد وضوح هذه السياسات لناحية عدم التغيير في الملف السوري، من جهة استمرار التشدّد في تطبيق قانون قيصر، الذي يضع اعتراضا على عملية إعادة الإعمار، وكل أشكال دعم النظام اقتصادياً.
وواضح أن الرئيس الأميركي، جو بايدن، يريد حلحلة بعض الملفات العالقة في المنطقة، حيث هناك دفع إلى حلٍ في ليبيا، ومثله في اليمن. وبالتالي، من المتوقع أن واشنطن ترغب في حل الملف السوري، وهي تدفع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، إلى التوافق مع روسيا والنظام، وقد قطعت عليهم أي أملٍ بدعمها التوجه الانفصالي. لكن موسكو ما زالت تصرّ على سياسة الانقلاب على مرجعيات الأمم المتحدة، والذهاب إلى مسارات بديلة، تبقي على النظام من جهة، والعمل على تشكيل جيش موازٍ داخل النظام، يمكنه ضمّ معارضين تقبلهم موسكو في فصيلها الخامس، كما في درعا، ليكون قوّةً وازنةً ضد حالة الولاء لإيران من بعض فرق الجيش، وضدّ حالة المليشيات الرديفة التي تشكلها طهران بمرونةٍ فائقةٍ لا تملكها موسكو، عدا عن المليشيات الشيعية غير السورية الموجودة في سورية.
هنا تأتي أهمية المبادرات التي تُقدَّم إلى موسكو، والتي ربما تدرسها القيادة الروسية على مهل. ضبابية تلك المبادرات، وافتقاد الردود الروسية حولها، سمحت للتحليلات السياسية والإعلامية بأن تشطح في مخيلتها، باعتبار أن ذلك المجلس العسكري سيقود المرحلة الانتقالية، الأمر غير المطروح، فهو يحتاج إلى انقلاب عسكري داخل النظام، وهو غير ممكن حالياً، بسبب تورّط ضباط الصف الأول من النظام بارتكاب مجازر حرب، وبالتالي هم يشاركون مجمل النظام مصيره، بينما لا يملك ضباط الصف الثاني تلك الإمكانية، كونهم مراقبين أمنياً، ولم تقدّم تلك المبادرات ضماناتٍ لهم حول سلامتهم من المحاسبة والانتقام. هذا إضافة إلى أنه لا توافق دوليا بشأن ماهية الحل في سورية. وبالتالي، إمكانية فرض حل سياسي ومجلس عسكري من الخارج غير متاحة الآن.
أمام روسيا عدّة خيارات؛ أولها أنها قد تقتنص الفرصة، وتقبل بخيار مجلس عسكري ما يضم الضباط المنشقين غير المشاركين في معارك المعارضة، من فريق مناف طلاس أو غيره، لكن أن يتم ذلك عبر نظام الأسد، أو أن توحي بأنّ بقاء الأسد مرحلي، حتى تتمكّن من تمكين ذلك المجلس من السيطرة ودمجه بجيش النظام. وهي بذلك ستمرّر الانتخابات، وتبحث عن تبرير وقبول دولي وبعض اللين من الإدارة الأميركية بخصوص إعادة الإعمار. لكن هذا الخيار سيسقط على الأغلب، مع النقاش المتصاعد والرفض للفكرة ضمن الوسط السوري، والتحذير منها. وبالتالي لن يُقبِل الضباط المنشقون على هذا الطرح، ولا الشخصية العسكرية المطروحة ستقبل بحرقها كورقة في سبيل الإبقاء على الأسد.
والخيار الثاني أمام روسيا العمل داخل جيش النظام على تهيئة الظرف لقبول هذا الطرح، عبر انقلاب عسكري ترتّب له موسكو، وتأتي بالمجلس العسكري المزعوم لتولي الحكم تحت وصايتها، وهو طريقٌ محفوف بمخاطر الرفض الإيراني للفكرة، والتصاق الأسد أكثر بإيران ومليشياتها، والتي لا تزال قوة لا يستهان بها في الداخل السوري.
والخيار الثالث أن تبقي موسكو على حالة الاستنقاع السوري، وتعيد المناورات مع واشنطن بشأن تسليم شرقي الفرات للنظام، وتحقيق بعض الانتعاش الاقتصادي، وهو خيارٌ ما زال بعيداً، ومحفوفاً بخطر مداهمة الوقت، مع الانهيار المتسارع للعملة السورية وغلاء أسعار المواد الأساسية غير المسبوق.
توحي رسالة السفير يفيموف إلى النظام السوري عن ضرورة اهتمامه بالوضع المعيشي للسكان، والتقليل من الضغوط الأمنية والاعتقالات، بأن موسكو باقية على الخيار الثالث بالاستمرار بدعم بقاء الأسد في السلطة، وأن عليه أن يخفّف قبضته الأمنية، وأن يجد حلولاً اقتصادية؛ مثلاً عبر اتباع سياسات اقتصادية أقلّ تحريراً، والاعتماد على المنتج الوطني، أي التقليل من حجم استفادة مافيات الحرب التي دعمته من التجار الجدد مقابل دعم بعض السلع الأساسية للمواطن.
في كل الأحوال، إذا استمر الأسد في حملته الانتخابية، ومضى في إجراء الانتخابات الرئاسية، فذلك يعني أن موسكو اختارت الاستمرار في حالة الاستنقاع السوري، وأن عليها أن تبحث عن بدائل لإقناع واشنطن والغرب بشأن تخفيف العقوبات على النظام، والسماح بتدفق بعض الأموال لاستثمارها في عملية إعادة الإعمار.
بقي القول إن ما يقود إلى التفكير بمبادراتٍ كهذه عن دور أساسي للعسكر في التغيير، على الرغم من المخاوف من تجارب حكم العسكر في دول الربيع العربي الأخرى، هو أولاً الفشل الذريع للطبقة السياسية المعارضة، وتقديم نفسها أدوات للدول المتدخلة في الشأن السوري، إلى درجة خلو الحالة السورية من العمل السياسي في اللحظة الراهنة. وثانياً عدم وجود قوى مجتمعية منظمة، تعطي دوراً للشعب، وتضمن عدم سيطرة العسكر. وهنا نتحدث عن نقابات واتحادات عمالية وطلابية فاعلة، كما في الحالة التونسية. وثالثاً فشل الخيار العسكري، وغرقه في الأسلمة، وفي التبعية للدول المموِّلة والحاضنة له. وفي كل الأحوال، امتلاء الساحة السورية بمليشيات متعدّدة التبعية، يستوجب وجود جيش مقبول لدى جميع الأطراف، توجهه غير طائفي أو قومي أو انتقامي. ولذلك قد تحظى الفكرة باهتمام وتطوير، إذا ما توفرت الإرادة الدولية لحل سياسي حقيقي للأزمة السورية.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت