يجري في هذه الأيام الكثير من الحديث عن تحرك أميركي عسكري بخصوص سوريا. ومع أنه لا مؤشرات ظاهرة على عمل كهذا، باستثناء ارسال واشنطن طائرات متقدمة من طراز إف22″ إلى الشرق الأوسط، قالت إنها لردع التجاوزات الروسية في سماء سوريا وخرق اتفاقيات تنسيق الأعمال القتالية، إلا أن مصادر استخباراتية تؤكد وجود استعدادات لعمل ما في سوريا وعلى محاور عديدة.
إن نظام الأسد ليس أولوية واشنطن اليوم، لكنه في قلب الأحداث المحتملة، وهو سيتأثر بها حتماً، والتعامل معه يذكر بأسلوب التعاطي مع نظام صدام حسين، الذي تُرك، بعدما وُصم كنظام مارق، لنحو 13 سنة، اهترأ خلالها وارتكب المزيد من الحماقات، وقدم الكثير من التنازلات التي أدنته من النهاية بدلاً من أن تنقذه. والقاعدة في ذلك أن الولايات المتحدة، مع هامش القوة الذي تمتلكه، لا تشعر بالتهديد أو القلق من أي قوة عالمية، فما بالك بأنظمة صغيرة متهالكة، مثقلة بملفات الجرائم والانتهاكات الموصوفة والموثقة، وعلى هذا الأساس ترجئ أي ملف وتتركه جانباً حتى ينضج ويكون التعامل معه يسيراً من النواحي السياسية والعسكرية والأمنية.
لا تحتاج واشنطن إلى ذرائع أو مناسبات أو أفعال يقوم بها الطرف الآخر لتتحرك، فهي تعمل وفق أجندتها الخاصة وبتوقيتاتها، وعندما يحين موعد أي استحقاق تستطيع أن تقول: كفى! لقد ارتكبت هذه الجهة ما يكفي من الأخطاء، أو تصنع مناسبة بنفسها لتبرير عملها، ويمكنها حتى أن تتجاهل مسألة التبرير لتقول إن مصالحها تقتضي ذلك، ولديها تاريخ طويل من التجاوزات في هذا الصدد.
لكن هل ثمّة ما تستفيده واشنطن من بقاء أو إسقاط نظام في دمشق؟ في الواقع، لا مصالح حاسمة معه، لكن لا خسارة ملحوظة من إسقاطه، فوفق التصورات الحالية لصنّاع السياسات الأميركية لن تكون هناك معضلة كبيرة حتى لو حلّ الإسلاميون محله، والمخاوف التي صنعت قرار أوباما بعدم التدخل العام 2013 لم تعد سارية المفعول في حقبة ما بعد الانسحاب من أفغانستان والهزيمة السهلة لتنظيم داعش في سوريا والعراق.
إن الخطر الجيو-استراتيجي في منطقة الشرق الأوسط اليوم، لا ينبع من بلدانه أو أنظمته، بل من استخدام الصين المحتمل لها. وعند الحديث عن حلفاء الصين، نتحدث تحديداً عن روسيا وإيران، وهما القوتان اللتان تتمركزان في سوريا وتتخذانها قاعدة لنفوذ لم يعد مسموحاً به في هذه الحقبة الجديدة.
لم تعد الجمهورية الإسلامية في إيران قوة عقائدية لا بد منها لمواجهة خطر تفشي الحركات السنيّة المتطرفة، أو لتخويف دول الخليج العربي. هذه سياسة “قديمة”، وما يستحق النظر اليوم هو مدى قرب طهران من بكين، ومستوى التهديد الذي تشكله لتل أبيب. إن سياسة التعامل معها تبدأ من بتر أذرعها الطويلة في سوريا، ودفع امتدادها اللبناني الى الذبول، وتحجيم نفوذها في العراق، وهذا مجرد تمهيد لتشكيل تحالف إقليمي واسع بقيادة إسرائيل يتكفل بعد ذلك بدحرها إلى داخل حدودها وإبقائها هناك.
عملية حرث الأرض السورية لاقتلاع الشتول الإيرانية التي غرزت فيها، قادمة لا محالة، وفق مصادر موثوقة، وقد تكون أقرب مما نتصور. أما إنجاز الهدف التالي، وهو كف اليد الروسية عن هذا البلد، فهو ينتظر مزيداً من الاستنزاف في أوكرانيا، وخسارة موسكو لأقدامها على الأرض، أي المليشيات الإيرانية التي عملت طوال سنوات كجيش مشاة يزحف تحت غطاء من أسراب الطيران الروسي.
إن الضغط الأميركي الحالي في هذا الاتجاه، والذي نسمع به ولا نراه، مرصود جيداً في معسكر القوى الثلاث، نظام الأسد وإيران وروسيا، ويترجم هناك توتراً متصاعداً. فروسيا تعلم جيداً أن ثمّة ما يُحضّر لاكتساح القوة الإيرانية في سوريا، وتحاول أن تفك ارتباطها بها كي لا تشاركها المصير. وإيران ليس في وسعها سوى الهروب إلى الأمام، ومحاولة لطم الخصم الأميركي في وجهه لردعه، وهو ما سيجلب عليها مزيداً من النقمة. أما نظام الأسد، فلا يملك اليوم سوى ورقة التطبيع مع إسرائيل للمساومة وإنقاذ نفسه مرحلياً، وهو ما يبعده عن طهران ويؤدي إلى تشنج متصاعد بين قواته، والحرس الثوري والمليشيات التابعة له، رُصد بشكل واضح في شوارع محافظة دير الزور تحديداً.
تبدو الأجواء في الشرق الأوسط هادئة، والمفاوضات واللقاءات تجري بين مختلف هذه الأطراف من جهة، وواشنطن من جهة أخرى، بهدف عقد تسويات. لكن قبيل أي أزمة اصطنعتها واشنطن لم تكن الأمور تجري على هذا النحو؟ متى توقف الموظفون والإداريون الأميركيون عن القيام بعملهم الروتيني عندما كان الجنرالات يواصلون وضع الخطط في البنتاغون لتصريف فائض القوة الأميركية وتأكيد تفوق واشنطن الكاسح في كل مكان على وجه الأرض؟
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت