عادت منطقة إدلب مجدداً إلى واجهة الأحداث في القضية السورية، بعد ما انتهت إليه اجتماعات الوفد العسكري الروسي مع نظيره التركي في 16 أيلول/ سبتمبر الجاري، حيث استقر الأمر على طلب روسي، يقضي بتقليص عدد النقاط التركية المتمركزة في المنطقة الواقعة جنوب الطريق “إم-4″، ثم سحب السلاح التركي الثقيل منها، وتزامن ذلك مع تعليق الطرف الروسي مشاركته في الدوريات المشتركة مع الطرف التركي على الطريق إم-4”.
وتعكس المطالب الروسية رغبة في إضعاف الوجود العسكري التركي، من أجل تثبيت سيطرة قوات نظام الأسد على هذه المنطقة، وقد لا يختصر الأمر عليها فقط، بل قد يتعداه إلى منطقة إدلب ومناطق في ريف اللاذقية، وبالتالي فإن تكهنات عديدة تطرح حول مدى جدية الروس في المحافظة على وضع مناطق النفوذ بينهم وبين الأتراك في إدلب وفق تفاهمات أستانة وسوتشي، وحول ما إذا كانوا سيواصلون سياسة قضم المناطق التي تسيطر عليها فصائل متشددة وفصائل من المعارضة السورية تدعمها تركيا، بحجة مهاجمة مواقع “الإرهابيين”.
وفي ظل تكهنات عن إمكانية حدوث هجوم عسكري واسع للنظام على مناطق إدلب، وعقب تصريح وزير الخارجية التركية بقرب انتهاء العملية السياسية فيها، خرج وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف، كي يعلن أن المواجهة العسكرية بين النظام والمعارضة في سوريا قد انتهت، وأنه لا توجد سوى نقطتين ساخنتين في سوريا، أولها تسيطر عليها “هيئة تحرير الشام” في مناطق إدلب، ويحق لنظام الأسد أن يهاجمها، وثانيها تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية” في الضفة الشرقية لنهر الفرات وتتواجد فيها قوات أميركية. ورهن لافروف عودة الدوريات المشترك مع القوات التركية على الطريق الواصل بين مدينتي حلب واللاذقية “إم-4” بعودة الهدوء إلى المنطقة.
وعادة، لا يمكن التعويل على تصريحات المسؤولين الروس، لأنَّ ما يفعلونه على الأرض يتناقض تماماً مع ما يعلنونه أمام وسائل الإعلام، حيث قامت الطائرات الحربية الروسية بشن أعنف الغارات على مناطق في إدلب، وذلك عشية اجتماعات الوفدين الروسي والتركي في أنقرة، ثم قامت قوات النظام بدعم روسي بشن غارات وهجمات على المنطقة بعد انفضاض الاجتماعات، وراح نظام الأسد يروّج لقرب شنه هجمات جديدة ضد المعارضة في إدلب، مع دفعه
مزيداً من التعزيزات العسكرية إلى جبهات جبل الزاوية وريف معرة النعمان الغربي ومناطق في ريف اللاذقية الشرقي، ونشر مؤيدوه صوراً لها على مواقع التواصل الاجتماعي، الأمر الذي أثار الرعب لدى أهالي إدلب وساكنيها من النازحين والمهجرين من أن يقوم الروس والنظام بشن هجمات على مناطق سكناهم وعيشهم، لا تفرق بين مدني وعسكري، ولا بين البشر والحجر، بالرغم من تأكيد تركيا بعدم التخلي عن المنطقة، وأن قواتها سترد على أي هجوم لقوات النظام، وستقدم الدعم للجيش الوطني في أية مواجهة مقبلة معها. ومع ذلك هناك مخاوف لدى أهالي مناطق جنوبي إدلب من تفاهمات تركية روسية جديدة على حساب مناطقهم.
ليس هناك ما يشير إلى قبول الجانب التركي بالمطالب الروسية في المدى المنظور القريب، لأنها لو تحققت ستعني إعادة النظر في اتفاقية سوتشي لخفض التصعيد، التي وقعها الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان في 5 من آذار/ مارس 2020، وإعطاء الضوء الأخضر لهجوم جديد للنظام والروس على مناطق المعارضة. كما تعني انتفاء الحديث عن عودة المهجرين إلى مناطقهم برعاية تركية وروسية مشتركة وعدم انسحاب قوات النظام إلى حدود ما قبل أيار/ مايو 2019.
وإن كان الساسة الروس قد باتوا يملكون قرار الحرب والسلم في سوريا، إلا أن ما يهم تركيا هو تثبيت الوضع في إدلب وما حولها على ما هو عليه راهناً، حفاظاً على قوة ردعها لأي هجوم محتمل لنظام الأسد على المنطقة، وهو منطلق الرفض التركي للطلب الروسي بتخفيض عدد نقاط مراقبتها في مناطق تقع تحت سيطرة نظام الأسد وسحب أسلحتها الثقيلة من تلك النقاط، وأهمها نقاط مورك والصرمان والعيس، لكن ذلك لا يعني أن التجاذبات التركية الروسية حول ملف إدلب قد انتهت، بل ستكون مادة للسجال بين المسؤولين الروس والأتراك، خاصة وأن اتفاق سوتشي ترك نقاطاً عديدة عالقة بين الطرفين، تتعلق بسبل تأمين الطريق “إم-4″، والتعامل مع التنظيمات المتطرفة، وانسحاب قوات النظام التي تحاصر عملياً عدداً من نقاط المراقبة التركية، وكذلك تنفيذ التعهدات الروسية بشأن مدينتي منبج وتل رفعت، لذلك طرح الأتراك ورقة مقايضة مقابل المطالب الروسية، من خلال المطالبة بتنفيذ التعهدات الروسية، القاضية بانسحاب عناصر قوات سوريا الديمقراطية من مناطق منبج وتل رفعت، وهو ما لم يقبل به الروس.
ولا شك في أن التفاهمات والاتفاقيات الروسية التركية في سوريا، يحكمها علاقات البلدين المتشعبة، وهي أكبر من الخلاف حول بعض النقاط المتعلقة بالوضع في إدلب، ومرتبطة بالنظر إلى القضية السورية بشكل عام، وبتفاهمات في مناطق شرقي نهر الفرات وغربه، وبملفات إقليمية، تمتد من الوضع في جنوب القوقاز وصولاً إلى منطقة شرقي المتوسط والوضع في ليبيا، لذلك ليس مستغرباً أن يعلن وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، عن قرب التوصل مع الطرف الروسي على اتفاق على وقف النار في ليبيا، وتلك أحاديث بعد بروز خلاف حول الوضع في إدلب، في ربط علني واضح بين الملفين، وبالتالي، هل يعني ذلك حصول مقايضة بين الطرفين التركي والروسي، بما يفضي إلى انتهاء المواجهات بين النظام والمعارضة حسبما أعلن لافروف، أم أن أنها لم تنضج بعد؟ لكن في مطلق الأحوال من غير المتوقع أن يشكل الوضع في إدلب عقبة كبيرة أمام تفاهمات روسية تركية حول تسويات مقبلة أكبر من إدلب وما حولها.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت