تعيد العقوبات الدولية، وبخاصة الأميركية الجديدة، على النظام السوري، بتوقيتها الحالي، الأسئلة نفسها إلى أذهان السوريين، والمتابعين للملف السوري، الذي يُفتح ويُغلق حسب الضرورات الدولية، وتداخلات الصراعات في ما بينها على قضايا خارج الحدود السورية، لكن كما جرت العادة يتم تسديد فاتورة الوفاق أو الاختلاف منذ التدخل الدولي متعدّد الأطراف على حساب الواقع السوري، ولعلّ عديداً من التساؤلات، أو الإشكاليات، تأتي من الاختلاف في تقدير انعكاسات العقوبات الفورية على النظام كحلقة ضيقة، فثمّة من يرى أنّ مثل تلك العقوبات لا تؤثّر، على النحو المطلوب، على النظام، الذي يستحوذ على موارد البلد، وعلى مداخيل إضافية لدعمه، وتمكينه من تمويل آلته الأمنية عبر أنظمةٍ على شاكلة إيران وروسيا. وثمّة من يرى أنّ تلك العقوبات لم تثبت ذاتها إزاء أنظمة استبدادية، في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، أو أنّ آثارها قد تفيد، لكن بعد آجالٍ تقدّر بعشرات السنين.
من ناحية أخرى، ثمّة من يرى أنّ مثل تلك العقوبات تفيد بالتضييق على النظام، وتسهم في عزله، وفي تجفيف موارده، ما يؤدّي إلى إضعاف قاعدته الاجتماعية، وإمكان تأليب المتضرّرين عليه، وربما خنقه، أو إجباره على الرحيل، في ظروفٍ معينة، وهو ما ثبت حتى اليوم (على الأقل) أنّها غير مُجدية، وكانت سلاحاً بيد النظام لمزيد من ترهيب الناس وربط مصيرهم به. هكذا ثمّة وجهات نظر مختلفة في هذا الأمر، وهي مشروعةٌ بالطبع، وتستحق التفحص والنقاش، بيد أن المسألة الأساسية هنا لا تكمن في وضع عقوباتٍ على النظام، وزيادتها، لإضعافه وعزله وإثارة الناس ضده، في وقتٍ غاب فيه مثل أفضل صنعته المعارضة في مناطق سيطرت عليها، أو هيأت لها الدول المتدخلة عسكريا وسياسياً في المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد، ما يضعف احتمالية أن الوضع الاقتصادي المتردّي مرتبط فقط بوجود زمرة الأسد الحاكمة. ذلك إن الأساس (لو أرادت الدول المساندة ثورة السوريين ضد الحكم الديكتاتوري في دمشق) يكمن في العمل الجدّي لإضعافه بوسائل الضغط السياسي، بأشكاله المختلفة، وهذا يتضمّن، مثلاً، فرض مناطق أمنية أو حماية دولية، في المناطق المدنية التي تتعرّض للحصار والقصف من النظام وشريكيه الإيراني والروسي، وهذا ليس أمراً متعذّراً، ذلك أنّ الولايات المتحدة فرضت، متأخّرة، ومن طرف واحد، مثل ذلك الأمر في شرقي الفرات، كما أنّها جرّبت ذلك في دولٍ عديدة. ويتضمّن ذلك التوجّه، أيضاً، إنهاء السماح الأميركي لإيران وروسيا بالوجود العسكري في سورية، وهي غلطة كبيرة، أو سياسة مواربة، انتهجتها الولايات المتحدة في المراحل الأولى للصراع في سورية، لاستدراج روسيا وإيران لاستنزافهما هناك، وأيضاً، لإيجاد وضع يتيح لإسرائيل بيئة أمنة في سورية، على المدى الاستراتيجي.
إضافة إلى ما سبق، يتطلب هذا الوضع التسهيل على السوريين، ودعمهم، بما يمكّنهم من إيجاد كيان سياسي جامع لهم، يعبر عن تنوّعهم وتعدّديتهم واملهم في بناء سورية دولة ديمقراطية لمواطنين أحرار ومتساوين، وهو الأمر الذي جرى تعطيله، ليس بسبب عدم أهلية من تصدّى لذلك من كيانات معارضة سورية، وإنما، أيضاً، بسبب المداخلات العابثة والمؤذية التي تعمّدت التخريب على ذلك من أطراف دولية وإقليمية.
في ما يخصّ العقوبات، ربما يفيد التذكير بأنّ ثمّة عقوبات أميركية على النظام السوري، قبل إصدار “قانون قيصر” وبعده، وكان يجرى تجاوزها تارّة بالاستثناءات، وتارة بغض الطرف وفق مصالح دولية وإقليمية، حيث تطبيقه كاملاً كان سيمنع التقارب مع النظام على عكس مجريات ما حدث من انفتاح عربي ودولي على النظام، وقانون مكافحة شبكات الكبتاغون، الذي وقعه الرئيس بايدن نهاية الأسبوع الفائت، والمتهم بالمتاجرة بهذا المخدّر أفراد متنفذون في النظام السوري وصولاً حتى رأسه، في محاولةٍ لاجتثاث منابع تغذية اقتصاده من جهة، وإرضاء دول الجوار “المتضرّرة” من جهة أخرى، ربما هو وسيلة جديدة أيضاً للضغط على داعميه الدوليين في وقتٍ تعاني روسيا فيه من حربها التي طالت ضد أوكرانيا، وتعاني إيران من تداعيات سلوكها الاستبدادي، ما يعني أنّ العقوبات بنصوصها، ما لم تهدف إلى توظيفها بالشكل الذي يحقق غايتها، تبقى مجرّد إجراءٍ هدفه الحقيقي ليس الضغط على النظام السوري، بل هي أداة جديدة من أدوات الابتزاز بين الدول المتصارعة خارج الحدود السورية، وتحديداً التلويح لروسيا وإيران بصفقات تفاوضية تخصّ ملفاتها الحربية والنووية.
أيضاً، ثمة إجراءات جديدة، أو تعديلات، على لوائح قانون العقوبات، ربما تكون هي الأشدّ حالياً، اتخذتها الخزينة الأميركية، أخيراً، لوضع حد للالتفاف على العقوبات المفروضة على النظام السوري، والتي مكّنته حتى من الاستفادة من المعونات الإغاثية المقدّمة للسوريين اللاجئين، أو الذين يواجهون صعوباتٍ في المناطق المحاصرة، بحيث باتت أيّ شركة أو شخص يشارك أو يساهم مع جهة خاضعة للمعاقبة، عرضة للعقوبات، بغضّ النظر عن نسبة المشاركة، بعدما كان سابقاً لا يتضرّر إذا كانت نسبة مشاركته أقل من 50%، وهذا يشمل مشروع إيصال الطاقة من مصر والأردن إلى لبنان عبر سورية، وكذلك المساهمة الإماراتية أو الكويتية أو غيرها في الشركات السورية الخاضعة أو أصحابها للعقوبات.
منذ عام 1980 وسورية على قائمة العقوبات، لأسبابٍ مختلفة، أشهرها “قانون محاسبة سورية، واستعادة السيادة اللبنانية” (ديسمبر/ كانون الأول 2003)، في شأن ما اعتبرته الولايات المتحدة دعماً سورياً للإرهاب، ولإنهاء الوجود السوري في لبنان، ووقف تطوير سورية أسلحة دمار شامل، ووقف استيراد سورية غير المشروع للنفط العراقي، وإنهاء شحنات غير قانونية من المواد العسكرية إلى القوات المعادية للولايات المتحدة في العراق.
للتذكير، أدّت تلك العقوبات إلى تدنّي قيمة الليرة السورية، بشكل كبير، وتدهور أحوال القطاعات الاقتصادية، وتضاؤل المبادلات التجارية (الصادرات والواردات)، وحرمان سورية من السلع والتقنيات اللازمة لصناعاتها المحلية، وفرض حصار أو عزل على حركة المواصلات إلى الخارج، وعلى تبادل الأموال والمعاملات البنكية، لكنّها لم تنل من النظام السوري، ولم تقلل من حجم ثرواته، بل كانت وسيلة جيدة للاختباء خلفها وتبرير فساد حكوماته وفشل سياساته.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت