لم يكن مفاجئاً أن يثير وزير التجارة الداخلية الجديد بحكومة النظام، عمرو سالم، كل هذا الضجيج الإعلامي حول حملته ضد محتكرِي مادة السكر في سوريا. فالرجل الذي مثّل التغيير الوحيد المثير للاهتمام في الحكومة الجديدة، مطلع الشهر الجاري، والذي تربع على قمة هرم أكثر وزارات الدولة تأثيراً في معيشة السوريين، قادماً من خلفية أكاديمية غير ذات صلة بالشأن التجاري المحلي، يهوى الضجيج الفيسبوكي، ويعشق الجدل عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي. وكانت تلك الهواية هي البوابة التي قدّم من خلالها أوراق اعتماده مجدداً، لدى صديقه القديم، بشار الأسد، باستخدام فنون التملق لهذا الأخير، إلى جانب النقد المستمر لأداء الحكومات السابقة.
يحسن الوزير الجديد، العزف على وترٍ يبدو أنه يروق لـ بشار الأسد مؤخراً، ويظهر ذلك جلياً في الاتجاه الذي تعتمده وسائل الإعلام الموالية، وهو تحميل التجار، بصورة رئيسية، مسؤولية أزمات الأسعار والسلع المفقودة في الأسواق السورية. وهو اتجاه ليس جديداً، لكنه يتناقض مع اتجاهٍ آخر كان وزير التجارة الداخلية السابق، طلال البرازي، القادم من خلفية بيروقراطية أكثر خبرة –محافظ سابق-، يمثّله ويقرّ به، وهو أن التجار والصناعيين يشكلون أبرز حلقات الاقتصاد الوطني المتضررة بشدة جراء العجز الحكومي عن توفير حوامل الطاقة وتمويل المستوردات.
لذلك كان تبديل طلال البرازي بـ عمرو سالم، يوضح الاتجاه الذي يريد الأسد اعتماده في استراتيجية حكومته الجديدة، وهو إلقاء اللوم على فئة التجار والصناعيين، وتحميلهم عبء العجز الحكومي المستديم، بدل الإقرار به، وتحمل مسؤوليته.
وفيما كان عمرو سالم، يشن حربه ضد محتكرِي السكر في سوريا، ويلاحق مستودعات كبار التجار، ويلمح إلى أن أبرزهم كان في حمص، في إشارة ضمنية ربما إلى طريف الأخرس، ابن عم والد أسماء الأسد، في استعراض للقوة أمام التجار الذين التقاهم مؤخراً، ويتبجح مبكراً بنجاحه في خفض سعر كيلو السكر من 2700 إلى 2200 ليرة سورية، كانت مادة الفروج، المصدر الرئيس للبروتين في أوساط السوريين، تخرج من قائمة الممكنات لدى غالبيتهم، بإقرار وسائل الإعلام التابعة للنظام. في الوقت ذاته، بدأت شركات تصنيع الأدوية تحذّر من عجزها عن إنتاج بعض الأصناف، جراء ارتفاع سعر صرف “دولار تمويل المستوردات” ليصبح بـ 3290 ليرة سورية، أي أقل بـ 60 إلى 70 ليرة فقط عن سعر السوق السوداء، بإيعاز من شركات الصرافة الأربعة المقرّبة من مصرف سورية المركزي، والتي احتكرت سوق الصرافة برعاية حكومية رسمية.
بطبيعة الحال، لا ينفي ما سبق تهمة الاحتكار عن كبار التجار في سوريا. لكن جعل تلك التهمة السبب الرئيس للارتفاع المنفلت عن السيطرة للأسعار في الأسواق، ولمعظم السلع الأساسية، يبدو استراتيجية غوغائية، تستهدف التغطية على المسببات الرئيسية لحالة التضخم المستمرة في البلاد.
فالوزير الجديد الذي اتهم التجار باحتكار السكر، تزامناً مع ارتفاع أسعاره عالمياً، لتبرير بيع المخزون القديم، ذي السعر المنخفض، بأسعار أعلى، نَسِي تماماً أن التاجر يحتاج إلى تمويل أكبر لعملية شراء السكر الذي ارتفع سعره عالمياً. بمعنى، إن باع التاجر بالسعر القديم، سيعجز عن الشراء بالسعر الجديد، نظراً لأن الحكومة ما عادت قادرة على تمويله بدولار استيراد أرخص من سعر السوق السوداء.
وهذا ما يفسر حمى ارتفاع الدولار التي ألمّت بالسوق مؤخراً لتعود بدولار السوق السوداء إلى المستويات التي كان عندها قبل أربعة أشهر ونصف الشهر، من اليوم. فحكومة النظام التي أصدرت جملة قرارات تقييدية للاستيراد، منعت معها استيراد جملة واسعة من السلع، تسببت في قفزات بالأسعار مع فقدان سلع محددة من الأسواق، أخافت التجار، الذين ازداد طلبهم على الدولار. وجاءت مواسم المونة وتجهيزات المدارس، وبيع القمح والقطن، لتزيد من ضخ السيولة بالليرة السورية في الأسواق، بصورة أتاحت مجالاً للمضاربة على العملة، من جديد، كما كان متوقعاً، قبيل موسم الخريف.
في هذه الأثناء، وفيما تفلت معظم السلع عن السيطرة، يتبجح الوزير الجديد بضبط سعر مادة السكر. لكن خبرته المتواضعة تجعله لا يدرك أنه لن يتمكن مطولاً من ضبط جهازه الوزاري المعروف بفساده. فوزارة التجارة الداخلية، المعروفة بين السوريين بـ “التموين”، عنوان فساد عريض وقديم، حتى أن بعض العائلات تدفع رشاوى كبرى للمتنفذين كي يوظفوا أبناءهم فيها، بهدف أن يؤمنوا مستقبلهم المالي. فـ “التموين”، مثلها مثل “الجمارك”، إحدى مؤسسات الدولة المعروفة بتغلغل الفساد في أوساطها. الأمر الذي يجعل معركة الوزير الأخيرة ضد التجار، جولة واحدة رابحة لصالحه، على الأكثر. وجولات قادمة، كثيرة، ستكون لصالح التجار. فالعلاقة بين كبار التجار، وبين موظفي “التموين”، في سوريا، علاقة متأصلة من تبادل المصالح والمنافع. وتاريخ عقود من الرهان الخاسر على “التموين”، بهدف ضبط الأسعار، يثبت أن استخدام الأدوات القسرية لإدارة الاقتصاد ليس السبيل الأمثل في بلدٍ كسوريا.
وفيما يرتع الوزير الجديد في “هوشة السكر” التي افتعلها، تبدو السوق في مناطق سيطرة النظام مقبلة على قفزات جديدة لأسعار السلع، بدفعٍ من شح الدولار من جانب، وبدفعٍ من دخول سيولة جديدة من الليرة السورية إلى دائرة التبادل التجاري، من جانبٍ آخر. وبالتالي، فالأسعار إلى ارتفاع، بانتظار دورة ركود جديدة لن تتأخر طويلاً.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت