الحراك السوري الجديد وقائع وتحدّيات
ممّا لا ريب فيه أن الحراك السلمي الجديد الذي بدأت فيه مدينة السويداء يوم العشرين من شهر آب الفائت قد جسّد منعطفاً شديد الأهمية في سيرورة الثورة السورية، ولعل من أبرز علائم أهميّته أنّه لم يبق معزولاً في حدود محافظة بعينها بل سرعان ما اتّسع ليشمل محافظة درعا وأجزاء كبيرة من محافظات حماة وحلب وإدلب والرقة ودير الزور، وخاصة في المناطق الخارجة عن سيطرة سلطة الأسد، أضف إلى ذلك حالات التذمّر وشيوع ردّات فعل متمرّدة على سلطة النظام في مدن الساحل السوري وهي البقعة الجغرافية التي يراهن نظام دمشق على ولائها المطلق لسلطته.
وثاني علائم أهمية الحراك أنه حمل في تضاعيفه الردّ الحاسم على جميع المشككين وفلول الثورة المضادة وذلك من خلال الشعارات والعبارات التي ردّدها المتظاهرون سواء في السويداء أو سواها من الجغرافية السورية، إذ لم تكن المطالب مُختَزَلةً بمحدّدات معيشية آنية أو مطالب يمكن أن تخضع لأي شكل من أشكال المهادنة، فحين يطالب جميع المتظاهرين السوريين على اختلاف مناطقهم وتوجهاتهم وإثنياتهم بسقوط نظام الأسد والمطالبة بمحاكمة جميع رموز إجرامه فهذا لا يعني رفع سقف المطالب فحسب وفقاً لمزاعم المُرجفين، بل يعني بالدرجة الأولى أن انتقال السوريين من طور العبودية والإذلال إلى طور الحرية والكرامة إنما هو مرهون بقدرة السوريين على إزالة زمرة الإبادة الأسدية، وهذا ما يجعل الصراع بين سلطة الأسد والسوريين تنزاح من حيّزها السياسي المباشر وتنحو باتجاه فضائها الوجودي العام.
ولعل هذه النقلة النوعية في الوعي الثوري للحراك الجديد تسهم في إعادة الصراع بين الشعب والسلطة إلى مساره الصحيح بعد أن حاولت بعض القوى الإقليمية والمحلية اختزال القضية السورية بكتابة أو تعديل دستور في محاولة لتعويم نظام الإبادة من جديد.
ما هو مؤكّد أن هذه الانعطافة النوعية في الوعي الثوري لدى السوريين جعلت مفهوم (استمرار الثورة) واقعاً ملموساً ولم يبق مجرّد زعم تمليه الرغائب في النفوس، وكذلك لم تعد مقولة (إسقاط النظام ومحاكمة رموز الإجرام) مجرّد شعار شعبوي وفقاً لمزاعم الكثيرين.
ولكن ما هو مؤكّد أيضاً أن هذه اليقظة الثورية التي حملها الحراك السوري الجديد سرعان ما واجهها تحدّيان كبيران، الأول على المستوى الميداني، وقد تجلى بالمواجهات العسكرية في دير الزور بين قوات قسد وقوات العشائر من جهة، وامتداداتها إلى خطوط التماس في شمالي سوريا وخاصة على شريط قرى نهر الساجور، وبعيداً عن التقييم السياسي لتلك المعارك وكذلك بعيداً عن الدخول في تفاصيلها، إلّا أنه لا يمكن إنكار استقطابها للرأي العام وتوجيه الأنظار نحو وقائعها الميدانية على حساب التركيز الإعلامي الذي كان موجهاً نحو أشكال الحراك الأخرى، وممّا لا يمكن إنكاره أيضاً أن نظام الأسد استطاع الاستثمار في ما جرى من قتال وحاول إيهام الرأي العام بأنه طرف داعم لانتفاضة العشائر في مواجهة قسد، علماً أن معظم استثمارات النظام في أحداث كهذه تبقى نتائجها آنية وقصيرة المدى نظراً لإرث هائل من الزيف والكذب الذي عزز القناعة لدى أكثر السوريين بعدم الثقة بمزاعم السلطة الأسدية وادعاءاتها.
أمّا التحدّي الثاني الذي واجه الحراك السوري فهو من التحديات القديمة الجديدة، ولكن تكراره بمزيد من الشناعة يضاعف من تداعياته المسيئة للحراك والقضية السورية عامةً، ونعني بذلك المهزلة التي توجب على السوريين اجترار مرارتها في كل عام، فهل كان السوريون ينقصهم قيادة تكون عبئاً مضافاً على أعباء مأساتهم المتجددة منذ أكثر من اثنتي عشرة سنة، وإذا كانت الثورة السورية تشهد تجدّداً في الوعي الذي نجد تجلياته في الحراك السلمي الجديد، فمن المفترض أن يوازي هذا التجدد انعطافةٌ في الوعي السياسي لدى القيادة المزعومة للثورة والمتمثلة بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة أيضاً، وذلك من خلال الارتقاء بهذا الكيان إلى مستوى تضحيات السوريين وكذلك إلى مستوى إصرارهم على مواجهة الطغيان الأسدي بوسائل نضالية متجددة، ولكن يبدو أن العملية تجري عكس ذلك، إذ أخذ هذا (الائتلاف) على عاتقه مهمّة الخذلان المستمر لقضية الشعب السوري ولإرادة السوريين بآن واحد، ولئن صدح المتظاهرون السوريون في عموم أماكن تظاهرهم بسقوط نظام الإجرام وأخذوا على أنفسهم عهداً باستمرار النضال مهما بلغت التضحيات، فلا يتوانى أحد قادة الثورة المزعومين عن مكافأة الشعب السوري الثائر بفرض قائد مزعوم آخر عليهم ولكن (بالصرماية)، وكأنه يؤكد للسوريين بأن هكذا قيادة لا تليق بشعب قدّم عظيم التضحيات في سبيل تحرّره من الطغيان والعبودية، بل هي تصرّ على ألّا يكون سلوكها مفارقاً لبنيتها المشتقة من النظام الأسدي بتجلياته الأكثر قبحاً.
وبالفعل ينفّذ هذا القائد الصنديد وعيده بتنصيب أحد أقرانه رئيساً للائتلاف متحدّياً إرادة السوريين وتضحياتهم وجميع أشكال مأساتهم، وكذلك متحدّياً حراكهم المتجدد والمستمر، ولم يكن – بالطبع – الرئيس الجديد بأقل إساءة للسوريين من قرينه الأول، إذ اعتبر أن أهم مقوّمات شرعيته في الزعامة هي الرضى والدعم الذي يحوزه من القوى الإقليمية والدولية الكفيلة بأن تُسكَت أصوات السوريين جميعاً وتكبح رفضهم أو سخطهم على وقاحته، وبهذا تكون القيادة المزعومة للثورة قد حققت التماهي المطلوب مع سلوك نظام الأسد الذي لا يخفي زهوه وتباهيه بالدعم الذي يلقاه من حلفائه الدوليين في مواجهة شعبه، إذ ليس الأسد وحده من يستقوي على السوريين بالآخر الخارجي، بل ثمة من ينازعه هذه البراعة في الاستقواء، ليثبت الطرفان المستقويان على الشعب السوري بأنهما جهتان متخادمتان، وليس بالضرورة أن يكون هذا التخادم خاضعاً لقياسات المنطق المزعوم في زوابع الإعلام بل لعل النتائج العملية هي الأكثر صدقاً وثباتاً.
لم يكن خذلان السياسة لنضال السوريين الوطني هو الفصل الطارئ أو الجديد في سيرورة ثورتهم، بل ربما ظهرت إرهاصات ذلك منذ البدايات الأولى للثورة، ولكن ربما سادت آنذاك الكثير من المقولات التي استطاعت تخدير الرأي العام من مثل افتقاد السوريين للعمل السياسي المنظم وغياب قوى سياسية فاعلة ومؤثرة عن المشهد السوري وتحميل أي فشل سياسي على شمّاعة العهود الطويلة للاستبداد وتصحّر الحياة السياسية وما إلى ذلك من ذرائع، ولكن عندما يُواجه الحراك الوطني بالخذلان ذاته وبمقدار أكثر فداحة من الخراب بعد أكثر من اثنتي عشرة سنةً، فحينئذٍ لا تبدو المسألة قحطاً سياسياً ولا تصحّراً في الحياة الحزبية ولا ندرة في الكفاءات، بل ما تؤكّده الوقائع أن نجاح السوريين في إزالة نظام التسلّط الأسدي مرهون بقدرتهم على إزالة مشتقاته العابثة بتضحياتهم في الوقت ذاته.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت