عن منصب الرئاسة السورية الشاغر
في الثلاثين من الشهر المقبل يكمل لبنان سنة على شغور منصب الرئاسة بعد انتهاء ولاية ميشال عون، وهي فترة قصيرة بالمقارنة مع حوالى سنتين ونصف السنة من شغور الرئاسة بعد انتهاء ولاية سلفه ميشال سليمان. فوق ما ينطوي عليه شغور المنصب من إملاءات معروفة لتعيين رئيس جديد، يقول لبنانيون على سبيل الطرافة “وعلى سبيل الاستنتاج أيضاً” أن لبنان بغنى عن وجود رئيس، والفراغ الرئاسي مهما طال لا يؤثر على الحياة الاعتيادية “المتدهورة أصلاً” في البلد، ويذهب آخرون أبعد بالقول أن المنصب كان شاغراً فعلياً طيلة ستّ سنوات سابقة.
في جوار لبنان، تبدو العقدة المستحكمة في الكارثة السورية هي رئاسة بشار، وما دونها قابل للتوافق وللحل بين مختلف الأطراف الخارجية والداخلية. على أرضية هذا الاستعصاء أتى ويأتي الكثير من الكلام الذي يسلّم برئاسة فعلية قوية، ولو أنها مسنودة بما يشبه احتلالين وصيين على الموقع وعلى مَن يشغله. فبموجب هذا التحليل يبقى “الحليفان” من شؤون السياسة الخارجية، ولا يتعدّى أثرهما الداخلي المباشر تلك الاستثمارات الاستراتيجية كسدادٍ منطقي لثمن بقاء بشار في الرئاسة.
وخلال الأسابيع الأخيرة، منذ انتفاضة السويداء على نحو خاص، شاعت الأقوال والتحليلات “التي لا تخلو من صحّة أو صواب” عن اليأس من مآل التطبيع العربي مع الأسد، مترافقاً مع تدهور إضافي في الأوضاع المعيشية، لتعمّ النقمة في أوساط سورية بعضها موالٍ تقليدياً. القرارات الحكومية المتصلة بتلك الأحوال، في الأسابيع ذاتها، أتت كأنّما بهدف زيادة النقمة، إذ رفعت لمرتين أسعار المحروقات لشرائح خدمية وإنتاجية، ما تسبب فوراً بارتفاع إضافي في الأسعار.
رفعُ أسعار الوقود كان المؤشِّر الوحيد على ممارسة الأسد السلطة، بما أن صدور القرارين مُستبعد على المستوى الحكومي فحسب. يجدر بالذكر أن الدستور الحالي، الذي فصّله على أهوائه، يمنح الرئاسة سلطات تنفيذية واسعة جداً على حساب الموقع التنفيذي للحكومة، فضلاً عمّا يؤخذ من صلاحيات الأخيرة بالتعدّي على الدستور نفسه. ذلك يتطلّب ظهوراً متزايداً للأسد، على قدر سلطاته الفعلية، كي يتحدث إلى محكوميه في أوضاعهم، فلا يكتفي بإطلالاته المحدودة وبتكرار أقواله عن المؤامرة الكونية عليه، وعن عملائها في الداخل.
ليست المسألة أن الأسد لم يخرج ليتحدث في ظرف طارئ، هو انتفاضة السويداء، وقد ناقشنا هذا في حينه. المسألة أنه تصرّف كأن منصب الرئاسة شاغر، وكأن من طبيعة هذا المنصب أن يكون كذلك. ومما عزّز الانطباع نفسه أنه لم يستخدم قواته وشبيحته لقمع الانتفاضة، أي أنه لم يستخدم أيضاً أداته التقليدية المحبَّبة، والتي كانت منذ آذار 2011 أكثر ما يدلّ على ممارسته السلطة.
في فهم نقمة السويداء المعبَّر عنها في الساحات، والنقمة العامة في مناطق أخرى يستعصي فيها الاحتجاج، لا يسعفنا رمي الأسباب على خيبة أمل بالتطبيع العربي وعلى ارتفاع جديد في الأسعار أو تدهور أشدّ في قيمة الليرة، ما لم نضع هذه المستجدات فوق تراكمٍ سابق من اليأس من الأسد بحكم المنصب الذي يحتله. واستحقاق المنصب عاد إلى الواجهة عملياً مع انتهاء العمليات العسكرية الكبرى في ربيع 2018، بعدما سيطر الأسد وحلفاؤه على كل المناطق غير المشمولة بالحماية الأمريكية أو التركية.
منذ ما يزيد عن خمس سنوات صار مطلوباً من الأسد أن يكون رئيساً، بالمعنى الاعتيادي الشائع للكلمة لا أكثر. بل إنه لطالما حظي خلال الفترة نفسها بأعذار تخفيفية من أولئك المحكومين، إلى أن حدثت النقلة من التذمر العام المعتاد إزاء التدهور المعيشي إلى الطعن بقدرة الأسد على الحكم. بل صار الطعن دارجاً ومقبولاً في الساحل، رغم وجود العدد الأضخم من الشبيحة فيه، ووصل التعبير عن اليأس إلى بيئات كانت مستعدة للتغاضي عن مدى كفاءة الوريث كرمى لأبيه. القول أن الموالين يريدون ثمن وقوفهم إلى جانبه في الحرب، أو أن المجاعة دفعتهم إلى الاحتجاج، لا يعبّر بدقة عن اليأس جراء التحلل التام من المسؤولية تجاه المحكومين، ولا تسمية للتعبير عن هذا الواقع أنسب من شغور منصب الرئاسة بما يمثّله من مسؤوليات.
يبقى في الحيّز الإنشائي أو التعبوي الكلامُ عن تفريط الأسد بالسيادة الوطنية، ما لم يقترن بإدراك الآليات شبه الحتمية لاستجلابه لتدخل الإيراني ثم الروسي، إذا كان الاثنان قد أتيا بمحض إرادته. فالأثمان التي دفعتها طهران في سوريا لا بدّ من استردادها على أكثر من صعيد، ولا بدّ أن ينتقص استردادها من سيطرة الأسد، وكذلك هو حال الأثمان الروسية التي لن تُهدر بالتقادم أو التسويف ما دامت القوات الروسية موجودة في سوريا.
الأهم هو وجود موافقة أمريكية على السياق المذكور، فواشنطن تغاضت “بما يُفهم تشجيعاً منها” عن دخول الميليشيات الإيرانية ثم القوات والميليشيات الروسية. الفهم السائد، بما في ذلك لدى نسبة ضخمة من المعارضين، يتوقف عند كون واشنطن “على نحو غير مباشر” دعمت بقاء الأسد. لكن من المستبعد ألا يعي الساسة في واشنطن ما يعنيه التدخل الإيراني ثم الروسي لجهة السيطرة على مقدرات الأسد وقراره، ولا نغامر بالقول أن السيطرة عليه مطلوبة أمريكياً بقدر ما كان الإبقاء عليه قراراً أمريكياً.
ربما أعاقت الحرب في أوكرانيا قليلاً السياقَ المذكور لجهة موسكو، فتراجعت الاستعراضات الإعلامية التي يُراد بها إظهار السيطرة الروسية على بشار من خلال تسريبات مذلّة له. وكانت خلال سنوات قد تواردت على التوالي أخبار السيطرة الروسية على أماكن ذات أهمية استراتيجية وصولاً إلى السيطرة على مواقع عليا عسكرية ومخابراتية، تليها أخبار عن التنافس مع طهران للاستحواذ على القطاعات الاقتصادية المجزية حالياً، أو في حال أُبرمت التسوية في سوريا وبدأت إعادة الإعمار.
غير بعيد عن السياق ذاته، كانت الأوساط الأمريكية قد تحدثت مراراً عن تصفير عقدة الأسد، وواحد من الأوجه تجريده من السيطرة على زمام الأمور في سوريا، الأمر الذي تكفّل به الإيراني ثم الروسي، ليبقى الكلام عن إعادة تدويره بعبعاً لن يوضع قيد التنفيذ في المدى المنظور. اليوم، وجود الأسد في قصر الرئاسة تفصيل في لوحة إجمالية، تسيطر فيها الإدارة الذاتية الكردية “تحت الحماية الأمريكية” على شرق الفرات وعلى موارد المياه والنفط، وتسيطر فصائل معارضة “تحت الحماية التركية” على مناطق في الشمال والشمال الغربي. عملياً ليست هناك موارد يستفيد منها الأسد، ليس لديه ما يبيعه، بينما تعيق العقوبات الأمريكية فكرة البيع من أساسها. ومن المرجح أن هذا الوضع، رغم ما يبدو عليه من سوء، هو الأفضل له من تسوية كبرى بين واشنطن وموسكو وطهران، فطالما بقيت التسوية ممتنعة يبقى ضامناً التنعّم بموقع الرئاسة من دون مسؤولياته.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت