دعنا نفترض واقعاً متخيّلاً، أن العقوبات الغربية المشددة على النظام السوري، والتي فُرضت بعد الـ 2011، رُفعت جميعها، وأن “الحصار” انتهى، وتم إخماد نيران عدم الاستقرار الأمني، على كامل التراب السوري، واستعادت الحكومة في دمشق السيطرة على حقول النفط والغاز والقمح والقطن، في كامل الجزيرة السورية. أي عادت سوريا إلى وضعها الذي كانت عليه قبل الـ 2011، مع بقاء بشار الأسد ونخبته الحاكمة، في سدة السلطة. هل تنتظر سوريا حينها، مستقبلاً “كبيراً جداً”، بالفعل؟
قد يجد البعض أن أية إجابة على هذا السؤال، هي سياسية، ولا تحظَى بنصيب كافٍ من الموضوعية. لكن، إن قاربنا هذا السيناريو المتخيّل من الزاوية التي اعتمدها رأس النظام السوري، خلال حديثه مع تلفزيون الصين المركزي، بالاستناد إلى الأرقام، وتفاصيلها، فإننا سنخلص إلى إجابة لا لبس فيها.
فالأسد توقّع “مستقبلاً كبيراً جداً” لسوريا، إن تمت إعادة البناء، بالاستناد إلى تجربة ما قبل العام 2011، حين كانت مستويات النمو 7%، وكانت موارد البلاد في قبضة السلطة بالعاصمة، من دون مديونية خارجية كبيرة، وبرفقة زخمٍ من صادرات القمح والخضار والفواكه، والتطوير الصناعي. وانطلاقاً من هذه المقاربة، توقع الأسد أن تصبح سوريا أفضل بكثير مما كانت عليه قبل الحرب، إن توقفت “الحرب” -التي يعتقد الأسد أنها لم تتوقف بعد- وإن تمت إعادة إعمار هذا البلد.
ولتفحّص اللغط الذي احتواه حديث الأسد هذا، نحيلكم إلى كتاب “العقد الأخير في تاريخ سورية، جدلية الجمود والإصلاح”، للباحث السوري محمد جمال باروت، والصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عام 2012، والذي احتوى تشريحاً تفصيلياً، للأسباب الاقتصادية والاجتماعية العميقة، التي تسببت في الانفجار الاحتجاجي الكبير في عموم سوريا عام 2011. فتلك الأسباب كانت قد اعتملت واختمرت، تحديداً، في النصف الثاني من العقد الأول من حكم الأسد الابن (بين عامي 2005 و2010).
وبالفعل، كان الأسد محقاً بالإشارة إلى معدلات النمو الاقتصادي المرتفعة نسبياً في تلك المرحلة، والتي كانت بوسطي 5.1%، على مدار العشرية الأولى من حكمه. لكن هذا النمو لم يؤدِ إلى تنمية متوازنة، بل على العكس، تسبب فعلياً، بتعزيز اختلالات توزيع الثروة، بين المناطق والطبقات في سوريا. إذ هيمن نموذج “اللبرلة الاقتصادية التسلطية” على السياسات الاقتصادية – الاجتماعية، واقترن التحرير التجاري بهدر التصنيع، وتم التركيز على الخدمات والسياحة على حساب القطاعات الإنتاجية، خدمةً لطبقة رجال الأعمال الجدد، المتحالفة مع الفريق الاقتصادي “المتلبرل” داخل الحكومة، وفق وصف جمال باروت.
ويوضح الباحث السوري لبّ المعضلة التي عانى منها السوريون يومها. إذ أن عدالة التوزيع في بلدٍ ذي دخل متوسط، تعاني من درجة كبيرة من اللامساواة –كما كان حال سوريا يومها-، أكثر أهمية من النمو الاقتصادي. وبالفعل، لم تنعكس معدلات النمو الكمية المرتفعة، إيجاباً، على معدلات الفقر والتضخم والبطالة. إذ استأثرت النخب والشرائح والطبقات القوية بقطف الثمار.
وبالأرقام، ارتفعت نسبة الفقراء (وفق خط الفقر الوطني)، من 11.4% عام 2004، إلى 12.3% عام 2007. أما في عام 2010، فكان أكثر من ثلث السوريين مهددون بالانحدار إلى ما دون خط الفقر، بفعل التحولات الهيكلية التي اعتمدتها الحكومة السورية، حينها. ومن أبرزها، خفض الدعم التمويني ودعم المشتقات النفطية، واعتماد سياسات تحرير تجاري، بالتزامن مع ارتفاع وتيرة الاختلالات في عدالة التوزيع.
كذلك، ارتفع معدل التضخم من 10% عام 2006 إلى 15.15% عام 2008. وعززت السياسات الضريبية من تشوهات عملية توزيع الثروة. إذ تم خفض الضرائب المباشرة الأكثر إنصافاً من منظور العدالة الضريبية إلى معدل هو من بين الأدنى في العالم. وهي الضرائب التي تطاول المستثمرين. وكانت الذريعة، اجتذاب الاستثمارات الخارجية. فيما زادت الضرائب النوعية كضرائب الأجور والرواتب، والضرائب غير المباشرة، والرسوم الجمركية، وهي الضرائب التي تتحملها فئات الشعب وتؤدي إلى ارتفاع الأسعار وارتفاع تكاليف الإنتاج وضعف القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني. فيما ارتفعت البطالة إلى نحو 16.5% عام 2009.
الأرقام السابقة عكست اختلالات عملية التنمية يومها، فانتعشت المراكز على حساب الأطراف. ذلك لأن النمو لا يعني بالضرورة، تنمية. وإن كان شرطاً لها. إذ أن النمو يجب أن يُرفق بأدوات مؤسسية قادرة على تحقيق عدالة التوزيع، كي تتحقق التنمية بالفعل. وهكذا قاد نموذج الإدارة الاقتصادية لـ بشار الأسد ونخبته الحاكمة، بين عامي 2005 و2010، إلى خلق أسباب عميقة، لانفجار العام 2011.
وإن حدث أن توفرت ظروف مناسبة لعملية إعادة إعمار واسعة النطاق لسوريا، في ظل حكم نظام الأسد ذاته، فالمشهد سيتكرر، بكل تفاصيله، لكن هذه المرة، مضاعفاً. ويكفي أن نشير إلى عودة الأسد من الصين مباشرة إلى الساحل السوري، لنلتقط ملامح التمييز وعدم عدالة توزيع الثروة المرتقب، لو تحقق السيناريو المتخيّل، الذي يأمله الأسد. وهو السيناريو الذي بشّر ستيفن هايدمان، الخبير في شؤون الشرق الأوسط، في تحليل نشرته مؤسسة بروكينغز، قبل ست سنوات، بأنه وصفة شبه مؤكدة، لحرب أهلية مرجحة في سوريا. فالمقدمات نفسها، تؤدي إلى النتائج ذاتها. فما بالك لو أصبحت تلك المقدمات مضاعفة مرات عديدة.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت