“كانوا يحملوني ويضربوني بالأرض فـي نظارة مشفى تشرين العسكري، استمر هذا ربع ساعة، توقعوا بعدها أني انتهيت فوضعوني مع الموتى، كانت الجثث توضع فوق بعضها فجاء نصيبي فوق جثتين، ثم وضعوا عليّ اثنتين أخريين تمت تصفيتهم بعدي”.
هي قصة المعتقل محمد، الذي ينحدر من ريف حماة واعتقل لمدة عامين في سجن صيدنايا، الذي وصفته منظمة العفو الدولية بـ “المسلخ البشري”.
ويروي محمد قصته أثناء تحويله من السجن إلى مشفى تشرين العسكري التي تعتبر محطة للمعتقلين المرضى، الذين يتم تحويلهم من السجن إلى المشفى قبل قتلهم ودفنهم في مقابر جماعية، وفق ما وثقت تقارير حقوقية.
يتابع محمود قصته بالقول “بعد حوالي نصف ساعة صحوت وسرت قشعريرة في جسدي تبدأ من أصابع قدمي وكانت تمتد تدريجياً إلى باقي أعضاء جسدي، تحركت قليلاً فوقعت الجثتين من فوقي وبدأت أصرخ بصوت لا أردي من أين أتى”.
“وبدأوا بضربي على رأسي وبطني وكليتي وكل مكان، وأنا لا أتوقف عن الصراخ (..) بعد خروجي من المعتقل رويت لأحد الأطباء ما حدث، فقال قلبي توقف ثم عاد إلى الحياة وبدأ يضخ الدم مجدداً”.
قصة محمد هي واحدة من عشرات القصص التي وثقتها “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا”، وضمنتها ضمن تقرير يحمل اسم “دفنوهم بصمت”، والذي يتحدث عن آليات القتل والإخفاء في مشفى تشرين العسكري بين عامي 2011 و2020.
واعتمد التقرير على 154 مقابلة مع 32 معتقلاً وأطباء وممرضين عملوا في مشفى تشرين العسكري، وآخرون عملوا في المخابرات العسكرية أو الشرطة العسكرية والأمن السياسي والقضاء العسكري.
ويشرح التقرير هيكلية المشافي العسكرية في سورية وأهميتها بالنسبة للأفرع الأمنية، وشبكة العلاقات بينهما وتوزع المسؤوليات بينهما في تعذيب المعتقلين وقتلهم ودفنهم في مقابر جماعية.
النظارة.. أولى محطات “الموت”
بحسب التقرير يتم تحويل جثث المعتقلين، الذين قتلوا تحت التعذيب في السجون والأفرع الأمنية إضافة إلى المعتقلين المرضى، إلى مشفى تشرين العسكري، لتبدأ محطات التعذيب في المشافي.
المحطة الأولى تكون في مكان يسمى “النظارة” في مشفى تشرين العسكري، وهو مكان يتم فيه استقبال المعتقلين المرضى وكذلك جثامين المتوفين، سواء أكان هؤلاء من المرضى أو ممن فقدوا حياتهم في أحد مراكز الاحتجاز.
وأكد التقرير أن عملية نقل المعتقلين من مراكز الاحتجاز إلى المشفى تترافق مع اعتداءات وحشية تصل إلى حد فقدان الحياة في كثير من الحالات.
ويقول التقرير إن “النظارة” هي “المحطة الأولى للمعتقل المريض عند وصوله إلى المشفى، وهــي أيضـاً مكان تجميع جثث المعتقلين قبل تحميلها ونقلها إلى المقابر الجماعية”.
وأضاف “توضـع الجثـث عنـد البـاب الخارجـي للنظـارة ويجبر المعتقلون على حمل جثث زملائهم ووضعها في الآليات المعدة لنقلها إلى المقابر”.
وأحياناً يكون بين الجثث مرضى يرواحون بين الحياة والموت فيقوم المساعد في النظارة بتصفيتهم، كما يتم إدخال عناصر من الدفاع الوطني الموقوفين بتهم جنائية للاعتداء على المعتقلين المرضى وتصفيتهم قبل عرضهم على الطبيب.
محطة الإسعاف البديل
المحطة الثانية هي “قسم الإسعاف البديل”، وهي المحطة الثانية للمعتقلين الذين ينجون من الموت في محطة “النظارة”.
وهو مستودع قديم من طابق واحد تحت الأرض ملاصق لقسم الإسعاف الرئيسي، وتبلغ مساحته حوالي 100 متر مربع ويحتوي على 30 سريراً، ويبلغ الكادر الطبي فيه بين 30 و40 بين ممرضين وأطباء.
ويعرض المعتقلون المرضى على قسم “الإسعاف البديل” فقط كإجراء روتيني وإعطائهم مسكن ألم في أحسن الأحوال، دون عرضهم على الأقسام المختصة.
يقول أحد المعتقلين: “أدخلوني إلى قسم الإسعاف في المشفى، دخل مساعد ومجند عادي، وعرضاني على طبيب لا يشبه الأطباء في شيء، وعرفت لاحقاً إنه برتبة عقيد أو عميد”.
و”دخل غاضباً وأخذ يصيح بهم ليش جايبينه لعندي (..) يعني جايبينه نوقع له شهادة وفاة، فأجابه المساعد له يا سيدي لسة روحه ما طلعت”.
وعقب ذلك خرج الطبيب بسبب انتهاء مناوبته، فـ”التفت المجند إلى المساعد وقال له: شو بدنا نساوي فيه؟، فأجابه المساعد: رجعه على النظارة بركي بيفطس وبيريحنا منه”.
والهدف من هذا القسم، حسب التقرير، هو عزل المعتقلين بشكل كامل عن أي شخص، وحرمانهم من أي فرصة للتواصل مع العالم الخارجي أو التعرف على أحدهم عن أي طريق كان.
ويمارس الكادر الطبي في القسم عمليات التعذيب للمرضى، إذ إن الكادر الطبي المسموح له بالدخول لهذا المكان محدد بدقة من الموالين للنظام، ويمكن القول إنهم بأغلبيتهم من الطائفة العلوية، حسب التقرير.
محطة النقل للمقابر الجماعية
المحطة الثالثة هي نقل جثث المعتقلين الذين قتلوا تحت التعذيب في السجون والمرضى الذي تمت تصفيتهم في المشفى إلى المقابر الجماعية، بعد إصدار شهادة وفاة لهم من قبل طاقم “الطبابة الشرعية”.
وحسب التقرير، فإن دور الطبابة هو “شرعنة عملية تصفية المعارضين وإخفاء جثثهم”، عبر كتابة تقرير عن أسباب وكيفية وفاة المعتقل.
لكن في الواقع لا يقوم الأطباء بفحص جثث المعتقلين المتوفين وتشريحها، ويتم كتابة أسباب الوفاة بشكل شبه دائم تتعلق بالأمراض القلبية.
وتجمع جثث المعتقلين، المتوفين تحت التعذيب في السجون والأفرع والذين يتم تصفيتهم في المشفى، في عدة أمكان بجوار نظارة المعتقلين وفي رحبة النقل في المشفى، ويتم تحميلها من أماكن تجميعها في سيارات النقل لتدفن في مقابر جماعية.
ويوجد في رحبة النقل في المشفى ست سيارات كبيرة مبردة لنقل الجثث، وأيضاً سيارات من نوع “مازدا” مغلقة تم تعديلها لتصبح سيارات إسعاف تنتقل ضمن دمشق وريفها.
وتوجد أيضاً سيارات من نوع “شفروليه” تابعة لمؤسسة الحراج في وزارة الزراعة، إضافة إلى 16 ميكروباصاً من نوع “مازدا” سعة 14 راكباً، وسيارات صحية عسكرية قديمة، وسيارات صحية حديثة بحدود 20 سيارة (تبرعات من اليابان وكوريا قبل الثورة).
وأكد التقرير أن المعتقلين الموجودين في النظارة أصبحوا مجبرين على حمل جثث معتقلين آخرين في السيارات لنقلها إلى المقابر الجماعية.
كما أكد التقرير أن الجثث تتعرض “للضرب والإهانة” والدعس في المشفى من قبل عناصر الأمن والمرضين والممرضات.
يقول أحد المعتقلين “كان يتم إحضار الجثث بواسطة سيارات قلاب ويتم رفعها وإنزال الجثث مثل الرمل، وبعد الانتهاء من التصوير وتنظيم الضبوط يتم حملها إلى سيارات القلاب بواسطة تركس في حال كان العدد كبيراً”.
ويتم نقل الجثث بمرافقة عناصر من الشرطة العسكرية وسيارتي أمن من الفرع 227، إلى ثلاثة مقابر جماعية في نجها والقطيفة وجسر بغداد بالقرب من مدينة عدرا العمالية.
ويقول عامل سابق في مكتل الآليات في محافظة دمشق في التقرير، إنه طلب منه حفر خندق بطول 10 إلى 15 متراً وبعمق أكثر من 3 أمتار.
وعقب ذلك وصلت سيارات فيها أكثر من 450 جثة، و”طلب مني ضابط أمن أن أجرفها وأنزلها في الخندق، كانت الجثث الملقاة على الأرض تعيث حركتي حاولت الالتفاف حولها كي لا أسحقها تحت البلدوزر”.
“لكن لوح بيده وأمرني بالتقدم وأجبرني على سحقها تحت الدولاب، وصرت أحمل الجثث بسطل البلدوزر وأرميها في منتصف الخندق الذي حفرته”.