عندما نفّذت حركة حماس عمليتها “طوفان الأقصى”، قبل شهر من الآن، كانت انتفاضة السويداء في خط تصاعدي لجهة الاهتمام الخارجي بها. نعني بالأخير اهتماماً متواصلاً وأكثر جدية من شرائح من السوريين ازدادت ثقتها بالحراك واستمراره، ونعني أيضاً اهتماماً راح يتوسع ويتأكد من جهات خارجية منخرطة في الشأن السوري، وقد تجاوز بعض الاهتمام الأخير مرحلة استكشاف ما يحدث إلى تقديم دعم معنوي له، تجلّى ذلك خاصة باتصالات لمسؤولين غربيين بشيخ العقل الأبرز تأييداً للحراك حكمت الهجري، يعكس في وجهه الآخر تحذيراً للأسد من عواقب مجابهته بوحشية.
ولا نغالي بالقول أن الحراك كان قد صار محطّ تطلعاتٍ حتى ضمن فئات أقرب إلى الموالاة، على خلفية الاهتمام الدولي المتزايد به الذي قد ينهي حقبة من إهمال مأساة السوريين، وأيضاً على أمل أن يكرّس خطّاً ثالثاً راسخاً بين انعدام الأمل من سلطة الأسد وانعدام الأمل من هيئات المعارضة. ولسنا نساوي بين أسوأ ما لدى الأسد وأسوأ ما لدى المعارضة، ولا نقصد بالخطّ الثالث مساراً وسطياً أو توفيقياً بين الاثنين، بل نقصد مساراً مغايراً لهما وإن كان أقرب إلى ثورة 2011 لجهة تطلعاتها الأولى.
ما أن توضّحت أبعاد عملية “طوفان الأقصى” حتى توارت في وسائل الإعلام بقية الأخبار من هنا أو هناك، لأن ما حدث وما يزال يحدث استثنائي حقاً، وتبعاته قد لا تكون محدودة إطلاقاً. بمعنى أنه اهتمام مُستحق، والسوريون قريبون إلى الحدث بسبب العديد من الاعتبارات، منها “فوق الاعتبارات العاطفية التقليدية” أن مشاهد الدمار والإبادة تضغط على جرحهم الطازج إذ تذكّرهم بمجازر الأسد، ومنها إدراكهم “في حقل الحسابات السياسية” أن سوريا قد لا تكون خارج مقايضات دولية وإقليمية تُبرم على أنقاض غزة وأشلاء أهلها.
نظرياً، كان يمكن لأي حدث طارئ أن يزيح حراك السويداء من دائرة الاهتمام الإعلامي، لأن من طبيعة الأخير الانصراف إلى الساحات الساخنة على حساب الساحات المزمنة متى توقّفت الثانية عن تقديم الجديد وإثارة اهتمام المتابعين. ولا يندر أن تُبنى مظلوميات وعداوات، جراء عدم فهم ذلك، بين ضحايا سابقين وجدد، يرى كلّ منهم أنه الأولى بالاهتمام الذي خطفه الآخر منه!
هذا ما لم يفعله السوريون بمعظمهم، وما لم تفعله السويداء على نحو خاص، وبرهن على ذلك متظاهروها بمواظبتهم على رفع العلم الفلسطيني أو لافتات تتضامن مع أهالي غزة، أثناء احتجاجاتهم اليومية ضد الأسد. في الغضون، نالت إدلب المنسية تحت قصف قوات الأسد التفاتات من أولئك المتظاهرين، وكذلك حال منطقة الجزيرة التي تعرّضت لعدة عمليات قصف من القوات التركية. ولا ننسى التنويه بمظاهرات أهالي إدلب تضامناً مع غزة، والتي خرج بعضها في الاستراحة بين غارة للأسد وأخرى للطيران الروسي.
يُحسَب لمنتفضي السويداء تضامنهم مع غزة وإدلب والجزيرة، رغم انشغال الجميع عنهم بالمصائب والأهوال، سواء كانوا من الضحايا أو من متابعي ما يحدث. وهو قول لا لوم فيه ولا يذهب أبعد من كونه توصيفاً، ولا تتعدّى دلالته القول أن السويداء بخير حتى الآن؛ بخير إذ لم تفقد الحساسية إزاء ضحايا آخرين، وبخير إذ لم تقع فيها نكبة أو مأساة تجبرها على الانكفاء. والحق أن السويداء بخير أيضاً لأنها استوعبت بنضجٍ خروجَها من دائرة الاهتمام، ولم تدفعها هذه العزلة إلى الانكفاء عن مطالبها وعن المشروع الذي انتفضت لأجله. وألا يتسرّب اليأس إلى النفوس، رغم الحاجة إلى التضامن والاهتمام في مواجهة سلطة متوحشة، فهذا مطمئن لجهة رسوخ الحراك وثقة أبنائه بأنفسهم.
قد يبدو لوهلة أن انشغال الأسد باستهداف إدلب، وانشغال حليفه الإيراني بحسابات محوره التي تفوق السويداء أهمية، قد أتيا لصالح عدم استهداف الأخيرة. فعلياً، لم تتوقف المواجهة “المنضبطة حتى الآن”، ولم يتوقف تصعيد الحراك من جهة المنتفضين والردّ عليه من مخابرات الأسد، ومن المرجّح بشدة أن تكون الأخيرة وراء اغتيال رمزي المحيثاوي بستّ رصاصات في الأول من هذا الشهر، وهو من مؤسسي “تجمّع مهندسي السويداء” المعارض، وقد ظهر حاملاً أول لافتة تعلن عن التجمع، كما كان قد ظهر في صورة جماعية مع الشيخ الهجري.
تحاشى المنتفضون الانزلاق إلى العنف بسبب اغتيال المحيثاوي، وردّهم الأقوى كان باستمرار تشكيل هيئات تُعنى بتنسيق نشاطات الحراك، أو بتشكيل هيئات نقابية بديلة عن تلك الموالية، منها “نقابة المحامين الأحرار” و”تجمّع معلّمي السويداء لأجل الحرية والكرامة”.. إلخ. وقد أعلنوا أيضاً عن إضراب عام، من ضمنه إغلاق مقرّ فرع الحزب الذي بات من أهم الرموز الباقية للأسد في المحافظة. ثم تراجع المنتفضون عن مطلب إغلاق فرع الحزب عندما ووجهوا بالعنف، وأبدوا الحساسية التي صارت معتادة من أجل تحاشيه، خاصة مع إدراكهم أن المخابرات تعمل على أن يكون العنف من ضمن انقسام درزي اشتغلت عليه أولاً ضمن مشيخة العقل، ثم بالإعلان عن تشكيل هيئة روحية للدروز المقيمين خارج السويداء، إلا أنها لاقت فشلاً ذريعاً في المرتين.
بهذا التقدّم المتمهّل، الذي بات بعيداً عن الاهتمام الإعلامي، يبرهن حراك السويداء على رسوخه، رغم أن أفق المنطقة ككل صار أكثر تعقيداً بالحرب على غزة. وقد لا يكون الابتعاد عن بؤرة الإعلام سلبياً، لأنه أتى أيضاً في توقيت بدا فيه الحراك كأنه يفقد “جاذبيته” بالنسبة لمتابعيه عن بعد، ولأنه قد يكون من المفيد لاختبار أية تجربة هذا الإحساس بأنها متروكة لفعاليتها الذاتية فحسب، على أن يكون هذا مؤقتاً وغير متعمّد بهدف محاصرتها. بتضامنها مع غزة ومع إدلب والجزيرة، ترفض السويداء عزلة أريدت لها تحت مختلف العناوين منذ بدء انتفاضتها، وتبرهن على رحابةٍ لا تكون حرية حقيقية من دونها.
هي ليست المرة الأولى التي يجرّب فيها سوريون الإحساس بأنهم متروكون، وليست الأسوأ حتى الآن بالتأكيد، خاصة مع امتلاك النضج والوعي. وتقول لنا الحرب على غزة أن الوجود في صدارة نشرات الأخبار له كلفة باهظة في الكثير من الأحيان، ما يجعلنا نتمنى لأهلها انتفاء مبررات الاهتمام الحالي، ونيل الاهتمام الإنساني المستدام المستحق، وهو ما يستحقه السوريون أيضاً.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت