عودة الأسد إلى جلباب أبيه
لا يُعدّ بمثابة خبرٍ إصدار بشار الأسد مرسوم عفو عام عن بعض السجناء أو المُلاحَقين، فهذا صار معتاداً خلال السنوات الأخيرة، ومن المعتاد أيضاً أن العفو يخص المسجونين بتهم من نوع المخالفات التموينية أو مخالفات السير أو حيازة أسلحة غير مرخَّصة أو تهريبها “بقصد الاستخدام الجنائي”. وبالطبع هناك الأحكام المتعلقة بحيازة المخدرات وتجارتها، والمتعلقة بالعقوبات العسكرية وخاصة الفرار من الخدمة. المرسوم الأخير استثنى الخاضعين لمحكمة الإرهاب، وهي التهمة الموجَّهة للمعارضين، ويُذكر أن عدد المفرَج عنهم على خلفية اتهامهم بالمعارضة لم يصل منذ عام 2011 إلى عشرة آلاف معتقل من ضمن حوالى 150 ألف معتقل موثَّقة أسماؤهم لدى منظمات حقوقية.
الجديد هذه المرة في مرسوم العفو هو تاريخ إصداره الموافق لذكرى انقلاب أبيه واستلامه السلطة في السادس عشر من تشرين الثاني 1970، وقد لا يكون من المصادفة إصدار المرسوم بعد يومين من إصدار مذكرة توقيف دولية بحق بشار الأسد في سابقة يسجّلها القضاء الفرنسي لنفسه بملاحقة رئيس دولة أخرى أثناء توليه السلطة. وكأن الأسد، عطفاً على المذكّرة الفرنسية، يريد القول أنه باقٍ في منصبِ مَن يحاكِم ويعفو، وكأنه باسترجاع ذكرى انقلاب أبيه يريد التنويه بأكثر من خمسة عقود استطاعت خلالها عائلته الإمساك بالسلطة.
إزاء الاعتبار الأخير، يُفترض نسيان أقواله شخصياً قبل ثلاثة شهور ونيّف، عندما أنكر في مقابلته الشهيرة مع قناة سكاي نيوز أيّ دور لأبيه في توريثه السلطة، بل وصلت به الجرأة إلى القول أنه أتى عبر حزب البعث بعد وفاة أبيه الذي لم يخصّه في إجابته بأية التفاتة ودودة. ومن المعلوم أن مجمل حديثه في تلك المقابلة قد أثار مشاعر السخط والنقمة لدى مؤيدين سابقين خاصةً، ولدى عموم الواقعين تحت سلطته، وعلى تلك الخلفية المباشرة اندلعت انتفاضة السويداء المستمرة حتى الآن.
تنقل وكالة سانا عن نزار صدقني معاون وزير العدل أن مرسوم العفو “هو عامل تشريعي مهم لكونه يربط مصلحة المجتمع بالقانون وله دور اجتماعي وسياسي هادف وبناء”. في حين لا وجود لأي ملمح سياسي في الأمر سوى عودة بشار إلى تكريم ذكرى انقلاب أبيه، ولو على نحو غير مباشر، وهذه رسالة إلى أولئك الناقمين من مؤيديه، إذ يعلم أن تأييد قسم منهم يرجع إلى الوفاء لأبيه الذي يعتبرونه قائداً حقيقياً ارتفع بهم على صعيد السلطة السياسية وما يتصل بها من مكانة اجتماعية. هؤلاء تحديداً لديهم في نفوسهم غصّة حقيقية وهم يرون الوريث الجاحد فضل أبيه بتوريثه؛ الوريث الذي بدّد ما يرونه تركة ثمينة ونفيسة خلّفها له الأب، والذي تنكّر في المقابلة ذاتها لتضحياتهم من أجل بقائه في السلطة، ثم أتت قرارته اللاحقة لتضيّق عليهم معيشياً أكثر فأكثر.
بخلاف إنكار بشار لفضل أبيه، يمكن القول أن أباه اقترح عقداً ضمنياً لتوريث ابنه من بندين؛ أولهما يتوجه إلى الحلقة الأضيق من المؤيدين ويعدها بالاستمرارية عبر التوريث، والثاني يتوجه إلى عموم السوريين بوعد “التطوير والتحديث”. لم يكن مصادفة بالطبع التركيز على مزايا ذلك الوريث الطبيب، الدارس في الغرب بوصف الأخير مركز قيَم الحداثة والليبرالية.
بعد وفاة الأب بدا الابن واضحاً في تركيزه على البند الثاني على حساب الأول، لإظهار نفسه منقطعاً عن إرث أبيه، فكان كمَنْ يقول باستعارة عنوان رواية لإحسان عبدالقدوس صارت مسلسلاً شهيراً في التسعينات: “لن أعيش في جلباب أبي”. وتلاقت رغبته الشخصية حينذاك مع رغبة قسم من السوريين يريدون التغيير الديموقراطي والانفتاح على العالم والعصر، ومع رغبة الأجيال الشابة من الذين يريدون استمرار حكم العائلة بطريقة أكثر عصرية وإن لم تكن حرية الرأي والديموقراطية ضمن أولوياتهم.
كما هو معلوم، مع اندلاع الثورة أُعيدت إلى الواجهة مؤقتاً صورة الأسد الأب لشدّ عصب الموالاة، وسرت الأخبار عن إعادة ضباط مخابرات كبار ليكونوا استشاريين بعدما كان الابن قد أقصاهم عن مراكزهم. لكن سرعان ما باشر الابن ارتكاب المجازر، وفي الخلفية منها القول “لن أعيش في جلباب أبي”، إنما على نحو مغاير تماماً للمرة الأولى، وبهدف القول أنه قادر على فعل ما فعله أبوه وأكثر. فإذا كان الأب قد ارتكب مجزرة حماة فهو قادر على ارتكاب مجازر يصعب إحصاؤها، وإذا تعفف الأب عن صورة الدموي تاركاً إياها لشقيقه رفعت فإن الوريث مستعد لإثبات تفوّقه دمويةً على أبيه وعمه معاً، بل إنه خرج بعد شهور من استخدام العنف ضد الثائرين عليه ليعلن تحمّله المسؤولية الحصرية في ردّ غير مباشر على الذين يودون تحميل المسؤولية لشقيقه ماهر. في السياق نفسه، شهدت السنوات العشر الأخيرة الإتيان بضباط كبار عجائز من زمن أبيه فقدوا قدراتهم الجسدية والذهنية القديمة، بمن فيهم عمه، للإعلان باقتراعهم عن الولاء والرضوخ له.
وبينما يرتكب المجزرة تلو الأخرى، كان يضحّي بتلك الأجيال الشابة، ومنها أولئك الذين توسّموا بحكمه حياةً عصريةً حديثة. لينقشع غبار تلك المجازر عن خاتمة من السوء بحيث كان يصعب تخيّلها على مؤيديه أو حتى معارضيه. الذين نجوا من الحرب وجدوا أمامهم استحقاقاً أشدّ لا يتوقف عند الانهيار الاقتصادي، بل يتعدّاه إلى سلطة جشعة بلا حدود، تدفع إلى الهرب من البلاد يومياً بالمزيد من الباحثين عن لقمتهم.
أفضل توصيف لمشاعر السوريين في الداخل هو الاشمئزاز والقرف مع اليأس والإحباط الشديدين، وثمة بينهم خاصةً من يكابدون يومياً انهيار الأسدية رغم بقاء وريثها في السلطة، فهم يرون كيف انتهت معه إلى رئيس لا شأن ولا تأثير له في حدث إقليمي ضخم يقع تماماً أمام “باب البيت”، وإذا كانوا يشاطرونه عدم الرغبة في التورط في الحرب فلا تمثّلهم ضحكاته الواسعة جداً عندما ذهب لحضور مؤتمر القمة العربية الطارئة الخاصة بغزة. هؤلاء الذين يحتفظون بمكانة عالية للأب يعزّ عليهم حالهم المدقع، مثلما يعزّ عليهم أن تصل الأمور إلى حدّ إصدار مذكّرة توقيف فرنسية بحق وريثه، وربما تسعى جهات أخرى إلى إصدار مذكرة مماثلة تتعلق بتجارة الكبتاغون، مع العلم أن شقيقه موضوع على لائحة أمريكية للعقوبات ضمن مشروع قانون “الكبتاغون-2” الذي أقرّته لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس قبل عشرة أيام.
لقد بذل الابن كل ما في وسعه للتخلص من جلباب أبيه، وللقول أنه ضيّق عليه، وربما حانت مؤخراً لحظة العودة إليه بإصدار مرسوم العفو في هذا التاريخ؛ ربما استرضاءً للموالين عبر زمنهم “الجميل”، وربما توخياً لسلوى مشتركة معهم في ذكرى التأسيس.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت