بشار الأسد حينما يُدين نفسه
في كلمته التي ألقاها خلال دورة اجتماعات اللجنة المركزية لـ حزب البعث، قبل أيام، ذهب رأس النظام، بشار الأسد، بسماته الخطابية المعتادة إلى أبعد من المُعتاد. فمع تقمّصُ حالة المنظّر – المدرّس بنرجسيته المفرطة، وانفصاله عن الواقع، وإلقائه بالمسؤولية على الآخرين، ذهب بشار الأسد إلى أبعد من ذلك، حتى دان نفسه، بصورة لا يمكن فهمها، إلا على أنها خلل فادح في قدرة الرجل على التفكير المنطقي، وعجزه عن فهم علاقة السبب بالنتيجة.
ففي معرض حديثه المطوّل عن المقاومة في غزة، وعن صوابية “الموقف السوري” في “دعمها”، وفي سياق استطراده التنظيري بخصوص “القضية الفلسطينية”، مرّر الأسد جملة رسائل حادة وتأنيبية للحاضنة الموالية له، المُحبطة من حصيلة دعمها المكلّف له، بعيد ثورة العام 2011، والتي عبّرت عن نفسها قبل بضعة أشهر، بانفجار عدد من الناشطين عبر السوشال ميديا، والذي تم احتواؤه لاحقاً، بالأدوات الأمنية المعتادة للنظام.
في حديثه ذاك، مارس الأسد هوايته الخطابية المعتادة، بتسخيف وإهانة من يزعجونه، موجهاً لمنتقديه من البيئة الموالية له، صفات من قبيل “الانتهازية”، “الطابور الخامس”، “تافهين”، “جبان”، “الرويبضة”.. قبل أن يستدل على أنهم “هواة” في خطابهم السياسي، مستخدماً في ذلك، حجةً تفتقد إلى أدنى درجات الحسّ المنطقي السليم. إذ ردّ على هؤلاء بأن الوضع الاقتصادي في البلاد، قبل العام 2011، لم يكن جيداً، بل كان أحد أسباب الثورة، التي وصفها بـ “الحرب”، والتي استغلها الغرب، حسب وصفه.
لا تُظهر تلك السقطة في حديث الأسد، فراغ صبره من “أسطوانة” الموالين التي تتوق للعودة إلى الوضع المعيشي والخدمي الذي كان قبل العام 2011، فقط، بل تظهر أيضاً افتقاد المتربع على أعلى منصب في البلاد، لأدنى مهارات تجميع المعلومات في حجج متماسكة لتكوين تفكير منطقي. فكان ردّه على الموالين، بتسخيف ذلك الواقع الذي يتوقون إليه، قبل العام 2011، عبر الإشارة إلى أن نسبة النمو الاقتصادي يومها (7%)، لم تنعكس تنمية شاملة، بل على العكس، تسببت بانفجار احتجاجات الـ 2011. وهي معلومات دقيقة بالفعل. لكنها موضع إدانة له. وكأن الأسد نسي تماماً أنه كان الممسك شبه المطلق بزمام الأمور في سوريا، قبل عقدٍ كامل من العام 2011. أي أن الفشل الاقتصادي الذي أدى إلى انفجار احتجاجات العام 2011، -بوصف العامل الاقتصادي، السبب العميق لتفجّر تلك الاحتجاجات-، تعبير عن فشله شخصياً، في إدارة أهم ملف يهمّ المواطنين في أي بلد. وهو معيشتهم، ومعيشة أولادهم.
وفي سياق ذلك، نستشهد بمرجعٍ ملفت تناول بتفصيل كبير، الأسباب العميقة لما حدث في الأشهر الأولى لثورة العام 2011، وهو كتاب “العقد الأخير في تاريخ سورية – جدلية الجمود والإصلاح”، للباحث السوري، محمد جمال باروت، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، عام 2012.
ويتحدث باروت عن العقدية الأولى من القرن الحالي في سوريا، يوم كانت المديونية الخارجية بسيطة، وكان سعر الصرف مستقراً ضمن تذبذبات محدودة، وكان هناك احتياطي من النقد الأجنبي قادر على تمويل نحو 29 شهراً من المستوردات، وكانت عوائد النفط السوري وما جنته الخزينة من سياسات الانكماش في الإنفاق العام.. كلها عوامل وفّرت مجتمعة، استقراراً نقدياً، وأتاحت القدرة على التحرك باتجاه إصلاح مؤسسي واقتصادي، كان يمكن له أن ينقل البلاد باتجاه تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة.
لكن ما حدث، أن الأسد والفريق الاقتصادي والأمني المسؤول الذي اعتمد عليه، اختزلوا الإصلاح المؤسسي الضروري إلى برنامج تحرير اقتصادي متهالك على جذب الاستثمارات بأي ثمن، واعتمدوا نموذج اللبرلة الاقتصادية التسلطية، الذي دفعت ثمنه، الفئات الوسطى والفقيرة، تحديداً في الأرياف والمدن الصغيرة. تعاضد مع ذلك، تحالف رجال الأعمال الجدد النافذين بقيادة ابن خال الأسد، رامي مخلوف، مع الفريق الاقتصادي الطامح بالليبرالية، فاقترن التحرير التجاري بهدر التصنيع، وتم التركيز على قطاع الخدمات على حساب القطاعات الإنتاجية، فكانت النتيجة ارتفاع خط الفقر الأدنى (العميق) أو الأسود، عما كان عليه، رغم ارتفاع معدلات النمو. إذ استأثرت النخب والشرائح والطبقات القوية بقطف ثمار هذا النمو. وتعززت الفروق المعيشية بين المدن الكبرى من جهة، وبين الأطراف والمدن الصغيرة، من جهة أخرى.
وفيما سبق، تبدو علاقة السببية، جليّة لا تقبل أي نقاش. فذاك الواقع الاقتصادي والاجتماعي والتنموي المشوّه، أسّس عميقاً، لانفجار العام 2011، الذي تلقى أسباباً مباشرة لإشعال شرارته بفعل ثورات الربيع العربي. فمن المسؤول عن ذلك الواقع قبل الـ 2011؟ حين يتحدث بشار الأسد عن أنه لم يكن واقعاً جيداً، ونحن نتفق معه في ذلك تماماً، يبدو الرجل في أقصى درجات الانفصال الشعوري والمنطقي عن الواقع. فما حدث قبل الـ 2011، إما أنه كان مسؤوليته المباشرة بإرادة ورغبة كاملة، أو أنه كان نتيجة عجزه عن ضبط الزبائنية العائلية والمخابراتية المحيطة به. وفي التفسيرين، نصل إلى نتيجة أن الأسد أدى إلى ما وصلنا إليه عشية العام 2011.
والآن، حتى ذاك الواقع المشوّه، الذي يتوق أنصار الأسد للعودة إليه، لم يعد متاحاً في الأفق القريب، بفعل سياسات الأسد بعد العام 2011. فكان الحل الأمثل بالنسبة للرجل، أن يحاجج بتشوه واقعٍ يتحمّل المسؤولية الكاملة عنه، في سقطة تكشف مقدار الكارثة التي تعيشها سوريا، ممثلةً بهذا القابع على أعلى هرم نظامها الحاكم.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت