كُتب الكثير في الأسابيع القليلة الفائتة في معرض تحليل جملة تحركات بدأ رأس النظام، بشار الأسد، يقودها، بنشاط ملحوظ وغير معتاد. أبرزها، ما بات يُوصف بإعادة هيكلة أجهزته الأمنية والحد من تغولها المنفلت في حياة السوريين خلال العقدية المنصرمة، بالتزامن مع تنقلات وتعيينات جديدة في مستوياتها الرفيعة. إلى جانب العمل على إعادة تفعيل دور حزب البعث الحاكم، عبر بث الدماء في نشاطه من خلال عملية “انتخابية”، وهي العملية التي أبدى الأسد اهتماماً خاصاً بها. وليس انتهاءً بما بات يبدو وكأنه حملة مكافحة لتفشي الفساد وفشل الدولة غير المسبوق، والذي تجلّى بصورة خاصة في قصقصة أجنحة أمير الحرب المقرّب سابقاً من النظام، خضر طاهر (أبو علي خضر).
وفي معرض تحليل ما سبق، ظهرت قراءات عدة. ومن زوايا مختلفة. أبرزها ثلاث زوايا، الأولى تتعلّق بفشل “الدولة” المتفاقم، والذي بات يشكّل خطراً على نفوذ الأسد الداخلي وعلى قدرته في تنفيذ أهدافه السياسية الخاصة على الصعيد الخارجي. والثانية تتعلّق بالنفوذ الإيراني المتفاقم على حساب نفوذ الأسد ذاته، والذي بدا أن الحرب في غزة تسببت في نقطة افتراق حادة بينهما. في حين أن الثالثة تتعلّق بحاجة الأسد إلى استعادة جانب من “الشرعية الشعبية”، ضمن الشارع الموالي ذاته، الذي أبدى تململاً غير مسبوق أنذر بانفجاره، خلال النصف الثاني من العام الفائت.
وتبدو القراءات من الزوايا الثلاث، دقيقة، إن جمعناها معاً. إذ من الصعب تقديم تفسير متكامل لما يقوم به بشار الأسد، بالاستناد إلى واحدة منها، بصورة منفردة. فالأسد بدأ في مواجهة اختبار “الدولة الفاشلة”، منذ منتصف العام 2017، حينما قام بحملة أولى ضد فلتان السلاح والتشبيح من جانب ميليشيات موالية له، بعد أن كان قد أطلق هذا الفلتان بنفسه، بغية مواجهة ثورة الشارع السوري عام 2011. لكنه لم يتجاوز هذا الاختبار المعقّد، بعد. وكان والده قد واجه اختباراً مماثلاً تطلّب منه نحو عقدٍ من الزمن، حتى أنهاه تماماً، بين نهاية الثمانينات وحتى نهاية التسعينات من القرن الفائت، حينما أجهز على آخر ملامح فلتان القوة والنفوذ المسلح الذي كان قد أطلقه في أوساط حاضنته الموالية، مطلع الثمانينات، لمواجهة تحدّي الإخوان المسلمين. واستعاد نظام الأسد الأب، حصرية النفوذ المسلح المضبوط، بشكل شبه تام، نحو العام 1998، بعد أن صفّى آخر معاقل قوة شقيقه، رفعت، في اللاذقية، حينها.
في حالة بشار الأسد، اليوم، يبدو المشهد أكثر تعقيداً بكثير. إذ أن الفلتان الذي أطلقه بعيد الثورة، كان أكبر بكثير، وانحدر باتجاه شرائح لم ترتبط يوماً بالجيش أو الأجهزة الأمنية، خلافاً لعهد والده. فتشكلت شبكات نفوذ مدعّمة بالسلاح لم تعرف الانضباط يوماً، لتصبح عصابات، بكل معنى الكلمة. ومع انتشار هذه العصابات على كامل التراب السوري، بالتزامن مع وجود قوى خارجية داعمة لبعضها، على الأرض السورية ذاتها، أصبح المشهد أكثر تعقيداً. ويبدو أن الإطاحة بـ “أبو علي خضر”، هو رأس جبل الجليد فقط. فقدرة الأسد على استعادة مظهر “الدولة” المضبوطة إلى حدٍ كبير، هو الحد الأدنى المطلوب لحصوله على وضعية “الوكيل المحلي” الحصري، لأي قوة خارجية تريد الاستثمار فيه. ومن هذه الزاوية، يمكن فهم ربط البعض بين تحركات الأسد الأخيرة وبين ما اعتبروه استجابةً لبعض مطالب الدول العربية المُطبّعة معه، كشرطٍ لارتقاء هذا التطبيع إلى مستويات نوعية وجدّية أكثر من التطبيع الرسمي ذي القيمة المعنوية محدودة الأثر.
وانطلاقاً من النقطة الأخيرة، يمكن الاتفاق مع من رأى تضارباً حاداً بين المصالح الإيرانية، ومصالح بشار الأسد، في سوريا، بعيد اندلاع الحرب في غزة. إذ ذهبت طهران نحو تصعيد مدروس ضد القواعد الأميركية، لكنه مُكلف على أذرعها، وعلى الساحات التي تستخدمها، ومنها الساحة السورية. وبينما تقاتل إيران بدماء وساحات الآخرين، يبدو الأسد غير راغبٍ في التورط في هكذا تصعيد. ومع محاولته لضبط الساحة السورية لتجنيبها هكذا تورط، بدا أن النفوذ الإيراني منفلت العقال عن سيطرته، وعلى الأراضي التي من المُفترض أنها تتبع له. فأطلقت ميليشيات مرتبطة بإيران صواريخ من محيط الجولان، لم تصب أي تجمع استيطاني صهيوني في الهضبة المحتلة، لكنها أرسلت رسالة واضحة، بأن هدوء الجبهة، لم يعد من عوامل قوة نظام الأسد، بل أصبح ورقة إيرانية بصورة شبه كاملة. ناهيك عن نقل السلاح الإيراني عبر مطاري دمشق وحلب، والرد الإسرائيلي باستهداف المطارين أكثر من مرة، وليس انتهاءً باستهداف القواعد الأميركية، انطلاقاً من الأراضي السورية والعراقية، وتحميل هذين البلدين، كُلفة التصعيد ضد الأميركيين. فجاءت سلسلة التصفيات الإسرائيلية لقيادات إيرانية ناشطة في دمشق، ومن الوزن الثقيل، بفوارق زمنية قصيرة، لتخلق شكوكاً جدّية لدى النظام الإيراني، بتورط نظيره السوري في تعاون استخباري مع الكيان الإسرائيلي، يخدم هذه الغاية، وفق ما كشفت عنه بعض التسريبات الإعلامية.
وبالتزامن، يعمل بشار الأسد على محاولة “بعث” فاعلية حزب البعث، بغية إعادة إحياء المصالح المتبادلة بينه وبين مكونات مجتمعية، بصورة تعيد تعزيز سلطته. وهي استراتيجية تحدث عنها باستفاضة، الأكاديمي الأميركي، ستيفن هايدمان، في كتابه المعنون بـ”التسلطية في سوريا، صراع المجتمع والدولة”، والذي عالج فيه بنية النظام السوري وعوامل القوة التي يستند إليها، مشيراً إلى أن النظام السوري ملتزم بإخضاع أجهزته إلى “تحديث التسلطية”، بشكل مستمر، وأنه يعيد تشكيل استراتيجياته في الحكم من خلال عمليات تكيّف من الأدنى إلى الأعلى، بصورة تؤمن حياة النظام على المدى الطويل.
وفي الختام، يفرّق علماء السياسة بين ثلاث مصطلحات، تمثّل جوانب مختلفة من الفاعلية السياسية، هي، القوة، والنفوذ، والسلطة. ويعتقدون أن الفاعلين السياسيين في بلدٍ ما، يمتلكون جانباً واحداً، أو اثنين، أو الثلاثة معاً، مما يجعلهم في الحالة الأخيرة، الأكثر فاعلية. واليوم، نستطيع أن نقول، إن بشار الأسد، بات يدرك أكثر من أي وقت سبق، أن نفوذه وقوته، يتراجعان، بصورة باتت تهدد سلطته، ربما بنفس قدر التهديد الذي عايشه بعيد تصاعد الحراك الثوري قبل أكثر من عقدٍ من الزمن. وبينما نجح الأسد بتجاوز ذلك التهديد، جرّ ذالك “النجاح”، أثماناً باهظة عليه، تتمثّل في “فشل الدولة” الراهن، وتفاقم النفوذ الأجنبي الداخلي، وتردي “الشرعية الشعبية” في الأوساط الموالية بصورة غير مسبوقة، ليخلق ذلك تهديداً، من غير المحسوم بعد أن بشار الأسد قادرٌ على تجاوزه بـ “نجاح”، مجدداً.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت