ثلاث دلالات يمكن الوقوف عندها مطوّلاً، لذاك الخبر الجانبي الذي مرره أحد المواقع الإعلامية الموالية للنظام، قبل أيام، حول وجود “توجّه” لسحب مشروع إماراتي لإنشاء محطة توليد كهرضوئية في ريف دمشق، بعد أكثر من سنتين على تهليل إعلام النظام ذاته، لتوقيع اتفاق المشروع، بوصفه “رأس حربة” العودة المنتظرة للاستثمار الخليجي في البلاد.
الخبر الذي أورده موقع “أثر برس”، جاء في سياق الحديث عن مشروع صيني، بدا وكأنه بديل عن ذاك الإماراتي، -أو هكذا أُريد له أن يبدو-، من دون أي توضيح لسبب “تعثّر” المشروع الإماراتي. وأما الدلالة الأولى للخبر، والأهم، فتتضح في مراجعة خلفية المشروع الإماراتي، وتوقيت توقيع اتفاقه مع وزارة الكهرباء السورية، في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2021، بعد يومين من الزيارة الأولى لوزير خارجية الإمارات، عبد الله بن زايد آل نهيان، إلى دمشق، واستقباله من جانب رأس النظام، بشار الأسد. وهي الزيارة التي عُدّت يومها، انعطافةً نوعية في مسار الانفتاح الإماراتي على الأسد، والذي بدأ بإعادة فتح السفارة في 2018. وفيما شهد المسار السياسي– الدبلوماسي تقدماً نوعياً، تمثّل في زيارتين للأسد إلى الإمارات، خلال آخر سنتين، وصولاً إلى تعيين سفير مفوّض وفوق العادة للإمارات في دمشق، نهاية الشهر الفائت، بالمقابل، شهد المسار الاقتصادي، الأهم من منظور النظام، ركوداً وترقباً، بعد رهانٍ متحمّسٍ مُعلَنٍ من جانب النظام، ليصل اليوم إلى ذروة الإحباط، مع إعلان الـ “توجّه” بسحب المشروع الإماراتي، “نتيجة تعرقله وخروجه عن المسار المخطط له زمنياً”.
المشروع الموقّع مع شركة “إنترناشونال إنيرجي إنفستمنت”، كان من المفترض له أن يُنفّذ خلال سنتين، أي أنه كان يجب أن يدخل حيز الإنتاج قبل أشهر من الآن، وهو ما لم يتحقق، رغم أنه حين توقيع اتفاق المشروع، أُعلن عن تأمين التمويل اللازم له بنسبة 100%. الأمر الذي يجعلنا نقرأ “التوقيتات” المرتبطة بهذا المشروع، على أنها “توقيتات” سياسية بامتياز، من الجانبين. وفيما عبّر “التوقيت” الأول -حين الإعلان عن المشروع قبل سنتين وبضعة أشهر- عن تلويح إماراتي بورقة الاستثمار وإعادة الإعمار، قابله حماسٌ وتفاؤل من جانب النظام، يعبّر “التوقيت” الثاني، -مع الإعلان عن الـ “توجّه” بسحب المشروع قبل أيام- عن إحباط النظام مقابل ما يبدو أنه انكفاء إماراتي عن خوض غمار الاستثمار في سوريا.
ولفهم وجهة النظر الإماراتية، قد يفيدنا تحليل نشره مركز الإمارات للسياسات بأبوظبي، نهاية الشهر الفائت، بعنوان “الاستحواذ عبر الضغط: توسُّع النفوذ الاقتصادي الإيراني في سورية”. ويفنّد التحليل التحرك الإيراني في العام الفائت، والذي رآه معدو التحليل أنه يهدف للسيطرة على القرار الاقتصادي بدمشق، والتحوّل إلى مالك رئيس للأصول السيادية السورية، بحيث تضطر أي دولة ترغب في الاستثمار في سوريا إلى التفاوض مع إيران مباشرة.
ويقول معدّو التحليل أن نظام بشار الأسد حاول مقاومة الضغوط الإيرانية، بغية إبقاء ورقة الاقتصاد بيده، لإغراء الأطراف العربية والدولية للاستثمار في سوريا. لكن استراتيجيته لمقاومة الضغوط الإيرانية شهدت انهياراً في الآونة الأخيرة، تحت ضغط الحاجة للنفط الإيراني، وعدم نجاح محاولات الأسد للحصول على دعم اقتصادي نوعي من روسيا أو الصين.
ويضيف التحليل عاملاً مهماً لانهيار قدرة الأسد على مقاومة الضغوط الإيرانية، متمثّلاً في “تبدّد الآمال في الانفتاح العربي”. ويقول التحليل إن آمال نظام الأسد في الاستفادة من الانفتاح العربي، اقتصادياً، تراجعت، بعد أن تبين له أن حدود هذا الانفتاح ستقتصر على منحه “الشرعية السياسية” عبر إعادته إلى جامعة الدول العربية. ويوضح معدّو التحليل أن ذلك يأتي نتيجة تعاطي النظام السلبي مع المبادرة العربية ورفضه التجاوب مع الدول العربية في مجال وقف تجارة المخدرات وإعادة أعداد من اللاجئين على سبيل التجريب، في مرحلة أولى.
ويشير التحليل إلى أن النفوذ الإيراني المتصاعد في سوريا سيضعف فعالية أي انفتاح عربي على دمشق، وبخاصة في المجال الاقتصادي. وفي معرض هذه الحيثية، يورد التحليل خلاصة لافتة للاهتمام، إذ يقول: “سيدعم أي انفتاح اقتصادي عربي مع سورية أسهم إيران وستعود أرباحه على الخزينة الإيرانية بالدرجة الأولى، كما ستتمكن إيران من توجيهه إلى القطاعات التي ترغب في تنشيطها ولصالح الطبقة التي تدعمها في سورية”.
أي أن الانفتاح الاقتصادي العربي على نظام الأسد، سيحقق هدفاً معاكساً لهدفه الرئيس، وهو كبح النفوذ الإيراني. وهكذا يمكن فهم الانكفاء الإماراتي، عن دراسة فرص الاستثمار في سوريا.
وفي معرض التحليل أعلاه، يرد تفصيل مهم آخر، إذ يقول معدّو التحليل إن الاهتمام الصيني بالاقتصاد السوري، عقب زيارة الأسد إلى بكين (في خريف العام الفائت)، لم يتجاوز المشاريع الصغيرة، في ظل تحفّظ الصين على الاستثمار الكبير في سوريا، بسبب العقوبات الغربية والأوضاع المتقلبة وعدم الاستقرار الأمني. وهو ما يقودنا إلى الدلالة الثانية من الخبر الذي أورده موقع “أثر برس”، عن مشروع كهروضوئي صيني، يستهدف إنتاج 36 ميغاواط من الكهرباء عبر الطاقة الشمسية، خلال سنتين. إذ تأتي المقارنة بالأرقام لتؤكد ما ذهب إليه تحليل مركز الإمارات للسياسات، حول تواضع حجم المشاريع الصينية، مقارنة بالمشاريع التي كانت مأمولة من جانب الخليجيين. فالمشروع الصيني الجديد، سينتج 12% فقط من حجم الكهرباء التي كان من المُنتظر إنتاجها من المشروع الإماراتي الذي لم يُبصر النور. وبالاستناد إلى تقدير المصادر الحكومية السورية لتكلفة إنتاج الكهرباء عبر الطاقة الشمسية، فإن المشروع الصيني سيكون بكلفة نحو 36 مليون يورو، فيما المشروع الإماراتي كان بكلفة نحو 300 مليون يورو.
أما الدلالة الثالثة للخبر، فتتعلّق بالأرقام التي أوردها موقع “أثر برس”، حول ما نُفّذ من مشاريع لتوليد الكهرباء بالطاقات المتجددة خلال العام 2023، مقارنة بما رُخّص بهذا الغرض. لنجد أن وسطي ما تم تنفيذه لا يتجاوز الـ 20% من الإنتاج الكهربائي المأمول جراء المشاريع المُرخّصة، ويغطي أقل من 2% من العجز الكهربائي في سوريا البالغ نحو 4500 ميغاواط. وهو ما يؤشر إلى حجم البطء الكارثي في تقليص الهوة بين الإنتاج والحاجة للكهرباء، في واحدٍ من أكثر الملفات الاقتصادية تعقيداً بسوريا، والتي تعرقل بصورة كبيرة القدرة الإنتاجية، وتجعل المنتجات السورية أعلى بكثير من قدرة السوريين الشرائية، وعاجزة عن المنافسة في بلدان الجوار، بسبب ارتفاع تكاليف مكوّن الطاقة الداخل في إنتاجها.
ولو أبصر المشروع الصيني، النور، بعد سنتين، سينخفض العجز الكهربائي في سوريا، بنسبة تقل عن 0.8%. فيما كان يمكن للمشروع الإماراتي أن يخفض من هذا العجز ما نسبته نحو 7%. وهكذا، “تتقدم” سوريا بكهرباء “صينية” حذرة ومترّيثة للغاية، بعد أن خسرت فرص التقدم بكهرباء ممولة “خليجياً” بخطى أسرع نحو التعافي الاقتصادي، لأسباب تتعلّق بتعنت النظام السياسي، وعجزه عن اتخاذ القرار بمعزل عن إرادة طهران.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت