وعدٌ للسوريين بالمزيد من الضَّنَك المعيشي
لا استراتيجية مُرتقبة لدى صنّاع القرار الاقتصادي بحكومة النظام في دمشق، سوى تلك المُعتمدة فعلياً منذ أكثر من 4 سنوات، والمستندة إلى مفردات: التقشّف في الإنفاق العام، تقييد السيولة النقدية من الليرة السورية، والمزيد من تقليص الدعم. تلك هي الخلاصة الأبرز التي يمكن الخروج بها من الحوار المطوّل الذي أجراه وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية، محمد سامر الخليل، مع صحيفة “الوطن”، شبه الرسمية، قبل أيام.
وقد وصّف الوزير الواقع الاقتصادي الراهن بحالة “الركود التضخمي”. وهو ما يستلزم “أنواعاً علاجية ذات أثر متعارض”. وهي حقيقة، لا يمكن إنكارها. فـ “الركود التضخمي”، هو أسوأ السيناريوهات التي يخشى صنّاع السياسات الاقتصادية والنقدية في أي بلدٍ، التعامل معه، نظراً لأن محاولة علاج أحد أعراض هذه الحالة، يؤدي إلى تفاقم أعراض أخرى. فما هي الوصفة التي تراهن عليها حكومة دمشق في التعامل مع هذه الحالة الاقتصادية المعقّدة؟
تتمحور إجابات الوزير حول “الوصفة” المجرّبة ذاتها، منذ نهايات العام 2019. والتي أدت إلى أكبر تدهور معيشي في تاريخ السوريين المعاصر، حتى بات الناس يترحمون على أيام الحرب والاقتتال. فإلى جانب أثر الحرب والعقوبات والزلزال، ينتج الواقع الاقتصادي الراهن، وفق الوزير، عن سياسة “التمويل بالعجز المعتمدة على اقتراض المالية العامة بشكل مستمر مع طرح نقدي في السوق”. فالاستدانة من المصرف المركزي لتأمين الإنفاق الجاري والدعم، أدت إلى رفع معدلات التضخم وارتفاع كُلف الإنتاج، وتعاظم الاقتصاد الوهمي القائم على المضاربات.
أما وصفة العلاج التي عرضها الوزير، فهي “مراجعة السياسات السائدة في مجال التمويل بالعجز”، و”تخفيض حدة المضاربات سواء على سعر الصرف أم في قطاعات الاقتصاد غير الحقيقية (عقارات، سيارات)”، “بهدف توجيه رأس المال إلى عمليات الإنتاج”. وكان يمكن لهذه “الوصفة” أن تكون ناجعة بالفعل، لو كانت حكومة النظام صادقة في تنفيذ البند الأخير منها تحديداً، وهو تشجيع “عمليات الإنتاج”. ورغم أن الوزير تحدث في مواضع مختلفة من حواره، عن قرارات حكومته الهادفة لتشجيع الإنتاج الزراعي والصناعي، ومساعيها لإحلال الصادرات بدل المستوردات، حتى أنه أورد “مُنجزاً” لحكومته مفاده، “تحسّن مؤشر تغطية الصادرات للمستوردات ليرتفع في عام 2023 إلى 29 بالمئة مقارنةً بـ13 بالمئة في عام 2022″، إلا أن حديث ممثلي القطاع الصناعي الخاص في سوريا، خلال الأسبوع الفائت، عن أضرار رفع أسعار الكهرباء الصناعية المُباعة لهم، وتلويحهم بتوقف منشآتهم عن العمل، يعاكس كلام الوزير.
فصناعيو دمشق وحلب، قالوها بالفم الملآن، إن أسعار الكهرباء في سوريا أغلى من السعر العالمي في دول المنطقة. وهو ما يؤدي إلى زيادة تكاليف الإنتاج، ويُضعف قدرة المُنتَج السوري على المنافسة في الأسواق المحلية والإقليمية. وفي خطابٍ موجّه من غرفة صناعة حلب لرئيس الحكومة، قالت الغرفة إن فواتير الكهرباء تضاعفت 50 مرة مقارنةً بما كانت عليه عام 2020، وأرفقت الغرفة قائمة بأسعار الكهرباء في مصر وتركيا والأردن والسعودية، التي تراوحت أسعار الكيلوواط الساعي الواحد فيها، ما بين 2.5 إلى 9.5 سنت أمريكي، مقابل 16.5 سنت أمريكي في مناطق سيطرة النظام السوري.
ما سبق مثالٌ من أمثلة عديدة تؤكد أن حكومة النظام تتخذ قرارات وإجراءات تناقض هدف تشجيع عمليات الإنتاج الزراعي والصناعي، حتى باتت السلع تُهرّب من لبنان إلى سوريا، لأنها أرخص. وفيما يُرجع الوزير ارتفاع كُلف الإنتاج إلى التضخم الناجم عن التوسع في الإصدار النقدي، يؤشر مثال سعر الكهرباء الصناعية إلى أن أحد الأسباب يتعلّق بأسعار السلع والخدمات التي تحددها الحكومة وتبيعها للمُنتجين، بأعلى من أسعار نظيراتها في دول الجوار. خاصة أسعار حوامل الطاقة، المحرّك الرئيس لعمليات الإنتاج.
أما معضلة ملف الدعم، وهي اللازِمَة المرفقة دائماً بتبريرات الحكومات المتعاقبة لعجز الموازنة، فترجع أساساً إلى الهدر والفساد الناجم عن أداء الحكومة ذاتها. وبهذا الصدد، يمكن الاستشهاد بمثالٍ تفاعل خلال الأسبوع الفائت، إذ رفع “مجلس الشعب” الحصانة عن العضو، فؤاد علداني، بعد نحو شهرين من مطالبة وزارة العدل بملاحقته على خلفية تورطه بتهريب المازوت. وكان القائمون على محطة وقود يملكها علداني، قد أهدروا 300 ألف ليتر مازوت في أرض زراعية قريبة، قبل وصول الجمارك بساعات، في حادثة تفاعلت حينها، لتكشف عن تورط علداني، في احتكار المازوت وتهريبه. لكن الجهات الرسمية لم تكشف عن مصدر المازوت الذي احتكره علداني. إذ أن المشتقات النفطية في السوق السوداء، قريبة من -أو تتجاوز- الأسعار العالمية، مما يجعل “تهريبها” للخارج، غير مجدٍ، إلا إن كان مصدرها، المشتقات النفطية المدعومة، التي من المُفترض توزيعها على الشرائح الفقيرة والهشة معيشياً من السوريين، والذين يندر أن يحصلوا على كامل مخصصاتهم المُعلنة من مازوت التدفئة في كل شتاء. وعلداني هذا، كما بات معروفاً، هو زعيم ميليشيا سابق، ومقرّب من قائد “قوات النمر- الفرقة 25 قوات خاصة-“، سهيل الحسن. وعلداني، الذي رُفعَ غطاء النظام عنه، مثالٌ يفسّر كيف تصل المواد المدعومة إلى أمراء الحرب وأثريائها، لا إلى مستحقيها من السوريين، ليُعاقَب هؤلاء على فساد حكومتهم وهدرها، بتقليص الدعم المقدّم لهم.
وهكذا قدّم الوزير صورة للأفق المُنتَظر للسوريين، في الفترة القادمة، متجليّةً بالمزيد مما عاشوه في السنوات الأربع الأخيرة. أي المزيد من الضَّنَك المعيشي.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت