رغم تعدد الروايات حول تفاصيل اغتيال أبو ماريا القحطاني، إلا مقتله على يد شخص فَجّر نفسه أو فُجّر بحزام ناسف بات ثابناً، وما أضيف لذلك ن خلال شهادة بعض من نجوا؛ أن شخصان آخران كانا برفقة هذا الانتحاري سارعوا إلى المغادرة لحظة التفجير.
ومنذ الساعات الأولى للحادثة كثرت التساؤلات والتأويلات والاتهامات، إذ كان معظمها يتهم “هيئة تحرير الشام” التي كان القحطاني من قياداتها العليا بضلوعها بالحادثة، مستنبطين ذلك من مواقف وردود أفعال متباينة، فيما سارعت الأخيرة لتنعيه بـ”شهيد الغدر”، وتتهم “تنظيم الدولة” بالاغتيال.
يحاول هذا التقرير، البحث في مدى قدرة هيئة تحرير الشام على إخراج نفسها من دائرة الاتهام، عبر تعاطيها مع حادثة الاغتيال وخطابها الذي يراه البعض مفتقراً لقوة الدليل.
أولاً : تعاطٍ غير منسجم
بقراءة موضوعية، لا يمكن الجزم باتهام أي جهة دون أدلة وبراهين، ولا يمكن كذلك تبرئتها، لكن تضافر العديد من القرائن لمقربين من المشهد، قد يبدد الحيرة لدى هؤلاء، الذي يروون أن من يقف وراء مقتل القحطاني هي المنظومة الأمنية في “هيئة تحرير الشام”، وبالتالي كان لابد من الهيئة عبر أجسامها وإعلامها أن تسعى لنفي التهمة، ولكن هل نجحت في ذلك؟
آخذين بعين الاعتبارات أن أهم الإشكاليات التي حصلت في علاقة القحطاني بقيادة هيئة تحرير الشام المتمثلة بشخص الجولاني والتيار المضاد، هي قضية العمالة والفساد المالي التي تم العمل عليها، والتي أزاحت القحطاني وأبو احمد زكور خارج المفصل الفاعل في الهيئة وما تبعها من اضطرابات دفعت الجولاني لإعادة النظر فيها لما أثارته من توسع كبير أثر على تماسك البنية العسكرية لمنظومته، ليخلي سبيله ومن معه من قادة عسكريين.
ولكون حادثة الاغتيال أتت في هذه المرحلة المفصلية، حاولت الهيئة بكل أدواتها أن تظهر براءتها من دمه، عبر ثلاث مداخل أساسية:
- تعاطي الجولاني مع الحادثة
ظهر الجولاني في مقطع مرئي مصور نشرته مؤسسة أمجاد الإعلامية التابعة لهيئة تحرير الشام، في غرفة مغلقة لا يظهر معه سوى جثمان القحطاني الملفوح بكفن أبيض كتبت عليها آيات من القرآن الكريم، مقبّلاً رأسه، فرحاً بأنه نال الشهادة في شهر رمضان الكريم، وراثياً له، واصفاً إياه بالشهيد، متوعداً بالثأر لدماء “المجاهدين” والقحطاني.
ورغم المشاعر الفياضة التي أظهرها الجولاني في هذا المقطع إلا أنه لا يبدو اتساقه مع حالة الشقاق التي حصلت بينه وبين القحطاني، حيث اعتقل الأخير من قبل الجهاز الأمني العام لقرابة الستة أشهر تعرض فيها للتعذيب والإساءة – حسب ما نشرته في وقت سابق قنوات إعلامية محسوبة عليه – وما أظهرته قصيدة بلسان ابنته ماريا تم نشرها بخط يده تثبت هذا المشهد، وتم نشرها على معرفات قنوات تعارض الجولاني، خاصة أن إخلاء سبيله أتى في سياق ضغط الشارع بمظاهرات شملت عدة مناطق لم يمض عليه عدة أسابيع.
وبالنظر للتفسير الفيزيولوجي لشخص الجولاني أثناء تصويره مع الجثمان يتضح أنه كان خجلاً من إمعان النظر في وجه القحطاني، فكان يُكثر الالتفات عن وجه القحطاني، بما يدل أنه لم يكن بوحدة حال معه قبل مقتله، كما تبين أن الفيديو مصمم بحرفية لا تبدو فيه العفوية، التي يمكن أن توصل الرسالة الهادفة منه، ولا بد من الإشارة في هذا السياق بأن قدرة الجولاني على الحضور المنفرد مع جثمان القحطاني، يدل على أنه لايزال المتحكم الأوحد بالمشهد الأمني والعسكري، و أن القحطاني و أتباعه رغم الشقاق مع قيادة الهيئة، لم يصلوا لمرحلة المنعة منه، واقترن ذلك بغياب الجولاني عن مراسم التشييع والدفن، إلا أن مسؤولين أمنيين نابوا عنه في هذه المراسم.
- التعاطي الإعلامي
منذ اللحظات الأولى التي لانتشار خبر اغتيال القحطاني، كان الإعلام التابع للهيئة حاضراً في مسرح التفجير، يحاول أن يثبت حيثيات الجريمة و آليات تنفيذها.
فبعد أقل من ساعة من الحادثة ظهر أحد الإعلاميين المقربين في مكان التفجير، يظهر كيف آلت المضافة بعد الحادثة ، وأن هناك تناثر لأجزاء من قطع اللحم، وتم إظهار أجزاء من القطع المعدنية على أنها صاعق و أجزاء أخرى من حزام ناسف، في وقت ظهرت فيه جثة مقطعة الأوصال في صدارة المضافة تم التلميح بأنها جثة من نفذ التفجير، و إظهار أن السيف الذي تم إهداؤه للقحطاني غير متضرر من التفجير في مسعىً لنفي أنه ملغم و أن التفجير ناتج عنه.
وقد نعت وسائل إعلام تابعة للهيئة القحطاني بوصفه “شهيد الأمة الإسلامية” وأن يد الغدر قد نالت منه، في رسالة واضحة تنفي أن يكون هناك عبوة ناسفة مزروعة في المضافة أو في علبة السيف، وأن تفجيراً انتحارياُ كان السب وراء مقتله، على اعتبار أن مثل هذا النوع من التفجيرات لا تقوم به إلا جماعات متطرفة كـ”تنظيم الدولة”،
ج- التعاطي الأمني
اكتفت الأجهزة الأمنية بإصدار بيان يوضح أنه تم تبليغها عن انفجار في إحدى المزارع في سرمدا، وأنها توجهت إلى هناك ومن خلال التحقيق تبين أن انتحارياً فجر نفسه في مضافة القحطاني، واستطاعت خلال أقل من ساعتين تحديد الجهة التي تقف ورائها ” تنظيم الدولة”، ورغم أن من مسؤوليات الجهاز الأمني أن يكون لديه القدرة على تحديد الشخصيات التي تقف وراء التفجير، فقد تم تحديد مكافئة 25 ألف دولار لكل شخص يدلي بمعلومات تمكن جهاز الأمن من القبض على الأشخاص الذين فروا من المضافة بالتزامن مع التفجير، ودون تحديد هوية الشخص الذي فجر نفسه رغم أن معالم وجهه لا تزال واضحة.
ليثير كل ذلك تساؤلات معقدة، تُنبئ بأحسن الأحوال، أن هناك خلل وفجوات أمنية لا تتناسب بحال من الأحوال مع مظاهر الضبط الأمني السائد لأكثر من ثلاث سنوات متتالية، في المناطق التي تحكمها “هيئة تحرير الشام”.
ثانياً: تساؤلات عديدة …إجابات مبهمة
لعل أهم التساؤلات التي تدور في أذهان المتابعين لقضية مقتل القحطاني، كثيرة تثير الريبة والحيرة، وتحتاج الإجابة، أبرزها:
- أظهرت شهادة بعض الجرحى الذين كانوا في المضافة، أن الحرس الخارجي للمزرعة لا يولون اهتماماً للداخلين إلى المضافة، فلماذا لم يتم اتخاذ إجراء من قبلهم لشخصين خرجوا على عجالة من أمرهم من المضافة بالوقت الذي حصل فيها التفجير؟، ولماذا لم يتم إظهار شهادتهم الشخصية لما حصل؟
- جثة دخلت مشفى باب الهوى بجراح قاتلة، لماذا لم يصدر تقرير عن الطب الشرعي يظهر سبب الوفاة ونسبة الضرر الجسدي فيها، وفي حال وجوده لماذا لم يتم نشره للرأي العام؟
- كجهاز أمني متخصص ويعمل على الضبط الأمني في المنطقة، أليس من السذاجة أن يتم توجيه أصابع الاتهام وبشكل جازم لتنظيم الدولة خلال أقل من ساعتين، دون تحديد دقيق لهوية الأشخاص الذين يقفون وراء التفجير، أو على الأقل الشخص الانتحاري الظاهر في مسرح التفجير، في الوقت الذي لم يسجل أي نشاط لتنظيم الدولة خلال ثلاث سنوات فائتة في إدلب؟ وإن كانت هناك احتمالية لقيام “تنظيم الدولة” باغتيال القحطاني، فإن ذلك لا يتجاوز أن يكون حالة انتقام من عناصر مؤيدين للتنظيم الذين كان القحطاني مهندساً تنفيذياً في استئصال رفاقهم في إدلب، على اعتبار أن الأخير لم يعد لديه أي سلطة تنفيذية ضمن كيان هيئة تحرير الشام، وبأفضل حال أن تكون ضربتهم هذه لخلط الأوراق وتأجيج الصراع لإحداث فجوات أمنية يستطيعون من خلالها استعادة أنشطتهم.
- هل تفرض منطقية السياق بأن يظهر الجولاني وحيداً أمام جثمان القحطاني، ويظهر بحالة حزن شديد، متوعداً بالانتقام ممن يقف وراء مقتله، قاصداً بذلك تنظيم الدولة؟
- على فرض أن ما قام بالتفجير هو “تنظيم الدولة” نفسه، ألا يُظهر ذلك أن هناك غياب للحوكمة الأمنية، والضبط الأمني للمنطقة، بأن يكون القحطاني بشخصيته البارزة المحاطة بالحرس والموالين له من العسكر والعشائر، لقمة سائغة في فم من أراد قتله؟ في وقت لم تستطع خلالها مديرية الأمن العام من كشف أسماء الشخصيات الضالعة بالتفجير.
أخيراً، فإن منطقة إدلب مازالت تعاني من حالة من الخلل البنيوي والوظيفي للضبط الأمني، وغياب الشفافية في التعاطي مع القضايا الأمنية الحساسة، لتكون نموذجاً أقرب للدولة البوليسية بعيدة عن العمق الاستراتيجي في التعاطي الأمني والحوكمي، ولاريب في أن أهم التغيرات الملحة أن تكون ذات كيان مدني قادر على أن يخلق نوعاً من الترابط الوظيفي بين المجتمع المدني و السلطوي، ينقل المنطقة من حالتها الحرجة، إلى نموذج جديد مانع لأي فراغ عسكري أو أمني يمكن أن يكون مدخلاً ومبرراً لنظام الأسد وحلفائه لكسر الاتفاقيات الدولية في قضم ما تبقى من مناطق خارجة عن سيطرته شمال غربي سورية.