الانتحار في شمال غرب سورية..آفة اجتماعيّة تتفاقم
لا ينقضي شهر أو أسبوع في شمال غرب سورية، إلا و قد سجلت حالة أو أكثر من حالات الانتحار أو محاولة ذلك، لتكون مؤشراً واضحاً لواقع مأساوي تعاني منه شريحة واسعة من سكان تلك المنطقة، ناتجة عن أسباب ومسببات معقدة تفاعلت فيما بينها، لتصبح حالة وثقافة منتشرة يلجأ إليها بعض الأشخاص الذين يتعرضون لضغوط نفسيّة شديدة تفوق قدرات عقولهم ومستويات تفكيرهم.
و لم تكن الإحصاءات المتعلقة بهذه الظاهرة قادرة على رصد كل ما وقع منها، باعتبارها ظاهرة منبوذة ومورثة للعار تدفع أهالي الضحيّة في كثير من الأحيان للتكتم عليها، إلا أنها أوردت أرقاماً مؤكدة تعتبر مؤشراً خطيراً لظاهرة تفتك بالمجتمع، ولم تكن جهود الفاعلين والجهات المسؤولة بالقدر الكافي للحد منها وكبح جماحها، فلا بد من البحث عن حلول مكثفة وجهود مستدامة قادرة على وقف استنزاف المجتمع من هذه الآفة الفتّاكة.
- آفة اجتماعية / أسباب متراكبة
تشكل الاضطرابات النفسيّة الحادة التي تصيب الشخص السبب الرئيس والمباشر للانتحار، وما يقف خلفها من عوامل متعددة معقدة، بعضها متصل بالضغوط المعيشيّة الصعبة التي يعيشها معظم السكان في شمال غرب سورية، وأخرى متعلق بأزمات نفسية شخصية منعكسة من بيئة الأسرة و الحاضنة المجتمعية، كما أن حالة عدم الاستقرار الخانقة تعتبر الخط الفاصل والبيئة المشجعة لازدياد حالات الانتحار- هذا ما يفسر ازدياد حالات الانتحار بعد عام 2019- على اعتبار أن شدة الأزمات الجماعية تطغى على تفكير المرضى النفسيين في التفكير في أزماتهم الشخصيّة، ولعل أهم الأسباب السائدة في الشمال السوري هي:
- الحرب والاعتقال والفقد والتهجير.
- الفقر والبطالة والعجز عن تأمين لقمة العيش من قبل المعيل.
- ضغوطات اجتماعية لدى الأطفال.
- مشاكل نفسية معقدة وكارثة زلزال 6 فبراير/شباط 2023.
- عدم القدرة على التعامل مع صعوبات الحياة والمتغيرات التي تحدث بشكل كبير في شمال غرب سورية لدى اليافعين، مع تحميل بعض الأهل ضغوطات الحياة لأولادهم.
- حالات الانفصال والانقطاع عن الأطفال وتخلي الأهل عن المرأة المطلقة أو الأرملة.
- المطلقات والأرامل غير القادرات على إعالة أطفالهم.
- انتشار الإدمان على المخدرات، وما ينتج عن ذلك من آثار واضطرابات نفسيّة.
- الأسباب العاطفية والخلافات الزوجية عند الإناث، بالإضافة إلى صعوبات الدراسة عند بعض المراهقين.
- وسائل متاحة وثقافة منتشرة
اتخاذ قرار الانتحار ليس سهلاً، فهو نتاج تفكير مرير وتجارب حثيثة يخوضها المنتحر ليتغلب على وسواسه القاتل، ليجد في إنهاء حياته سبيلاً مختصراً للتغلب على أزماته ومعاناته، لكن سهولة الوصول لوسائل الانتحار، وغياب المنقذين من حوله تعتبر العوامل الإضافية التي تحسم ذلك القرار، فمعظم حالات الانتحار التي وقعت في شمال غرب سورية تمت بتناول حبوب الغاز، أو الطلق الناري، لأن المنتحر يظن أنها الوسائل الأقل إيلاماً لإنهاء حياته.
ومن الضروري فهم أن انتشار حالات الانتحار بشكل كبير في المجتمع تشكل مولداً يُنتج حالات أخرى بشكل متزايد ومضطرد، لتنقلب إلى ثقافة معدية تصيب أي شخص يقع في أزمة نفسيّة تحول بينه وبين التعايش والتصالح مع نفسه، ولعل ارتفاع نسبة الانتحار ضمن نطاق زمني محدد لم تتغير فيه الظروف والأحوال يعطي دليلاً واضحاً يؤكد هذه الرؤية.
- إحصائيات مرتفعة، ومؤشرات خطيرة
رغم وجود إحصائيات توثق عدد حالات الانتحار في شمال غرب سورية، إلا أنها تبقى أقل من الواقع، فحالة الانتحار تعتبر منبوذة ومورثة للعار تدفع أهالي الضحيّة في كثير من الأحيان للتكتم عليها، وبعض عائلات المنتحرين، لا يرغبون بتلقي العزاء باعتبار أن من قتل نفسه قد ارتكب جرماً شنيعاً يخالف تعاليم الدين وأعراف المجتمع.
وقد أصدر “فريق منسقو الاستجابة”، حصيلة لحالات الانتحار في شمال غرب سورية خلال عام 2023، لتكون هناك /62/ حالة بينها 34 محاولة باءت بالفشل، فيما سجلت المنطقة عام 2022 88 حالة (55 حالة انتحار، 33 محاولة فاشلة).
ليبدأ عام 2024 بتسجيل حالات انتحار جديدة، كان آخرها مطلع شباط بتسجيل حالتين متتاليتين، إحداهما لممرضة تعمل في أحد المشافي في جسر الشغور. وقد شكلت فئة النساء واليافعات والمراهقين النسبة الأكبر من بين الضحايا، ويعود السبب في ذلك لعدم قدرة هذه الفئات على التعامل مع مصاعب الحياة وضغوطاتها، وما يرافق ذلك من حالات تكتم، وغياب وعي الأشخاص المحيطين بهم لأزماتهم.
- تصدٍ قاصر، لا يجدي نفعاً
سجلت حالات الانتحار إضافة جديدة في سياق الأزمات التي يعاني منها سكان مناطق شمال غربي سورية، بل كانت نتيجة لذلك وهروباً مروّعاً للخلاص من قبل المُقدمين عليها.
وفي سياق تراكم الأزمات وتعقيداتها أغفلت الكثير من الجهات الفاعلة و المسؤولة طرح الحلول الناجعة لمكافحة هذه الظاهرة الخطيرة التي تهدد كيان المجتمع وسلامة أفراده، وقد اقتصرت الإجراءات الحكومية في الكثير من المناطق على منع بيع حبوب الغاز وشددت على شروط الحصول عليها من الصيدليات الزراعية.
ورغم أهمية هذا الإجراء إلا أنه لا يعد حلاً قادراً على التخفيف من حالات الانتحار، لأن ذلك لا ينفي وصولها لأيدي من يعانون من أزمات نفسية، ولا يشكل حالة تجبر أولئك على العدول عن قراراهم، بل يكون دافعاً لهم للبحث عن وسائل جديدة تفتك بهم، فكانت الحاجة ملحة بأن يكون هناك حلول جذريّة تتظافر فيها جهود السلطات المحلية و المنظمات الإنسانية و المجتمعات المدنية، تتمثل أساساً بإزالة مسبباتها أو على الأقل التخفيف منها، تبدأ بإجراءات توعوية و تنتهي بإجراءات تنفيذيّة، قد يكون أهمها توزع مختصين في حالات الاكتئاب الشديد وربطهم بوحدات الصحة النفسية والعقليّة، و تخصيص خطوط ساخنة للتواصل من ذويي المرضى النفسيين و المقربين منهم لتقديم الإرشادات للتعامل مع هذه الحالات، و ما يتبعها من تدخل سريع لإنقاذ من يفكرون بسلوك هذا الطريق، فالمركز الوحيد في محافظة إدلب الذي يقدم خدمة رعاية مرضى الاضطرابات النفسية والعقلية هو وحدة الصحة النفسية والذهنية في سرمدا، في حين تُقدم بعض المنظمات خدمات الصحة النفسية الغير اختصاصية. في التعامل مع حالات الاكتئاب الخفيف للمتوسط فقط.
كما أنه من اللازم أن تكون هناك إجراءات مشددة في مكافحة المخدرات وانتشارها في المجتمع، ووجود برامج مستدامة تقدم التوعية والإرشادات لمخاطرها وتأثيراتها الكارثيّة، ولخطباء المساجد ورجال الدين دور بارز في تعزيز فكرة قدسية الحياة وظلم النفس بقتلها.
إن ما تعانيه بيئات الصراع من مشكلات اجتماعية واقتصادية و أمنيّة متراكبة مديدة لأعوام تجاوزت الثلاثة عشر، تنعكس على واقع أفرادها و تورث فيهم أزمات نفسيّة معقدة، يجب ألا يحد من توجهات الجهات المسؤولة وأفراد المجتمع، للنظر و التصدي لظواهر تفتك في بنية المجتمع وتركيبته، و إن اهمالها و عدم تحمل المسؤولية تجاهها، يعتبر عاملاً إضافياً يؤدي لتوسعها وانتشارها وفقد السيطرة عليها.ش
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت