بين إعادة هيكلة “أمنية” وأخرى حزبية لم يفصل بينهما سوى 4 أشهر، خلق رأس النظام في سورية، بشار الأسد “لغزاً” تباينت رؤى المراقبين والخبراء بشأنه.
ورغم أن جزءاً من التحليلات سلط الضوء على “رسائل الداخل والخارج” قدّم باحثون ومختصون في حديثهم لـ”السورية.نت” تقديراً ثالثاً للموقف.
جاء الإعلان عن “إعادة الهيكلة الأمنية” من جانب الأسد بصورة مفاجئة ومريبة في آن واحد، في شهر يناير/كانون الثاني 2024، وفي الأيام الأولى من شهر مايو/أيار الجاري طبّق رأس النظام ذات الإجراء على “حزب البعث”، معلناً على نتائج “انتخابات” اعتبر أنها تمثل “تحولاً حقيقياً”.
ومنذ عقود يُنظر في سورية إلى “حزب البعث” على أنه أداة سلطوية أسس لها الأسد الأب (حافظ) وورثها الابن (بشار) لتكون جزءاً رئيسياً من عملية تدجين المجتمع منذ بداية نشأة الفرد وحتى بلوغه وانخراطه في مجالات الحياة، وذلك عبر مفردات وشعارات فارغة من أي مضمون وطني.
وكذلك الأمر بالنسبة للأجهزة الأمنية، التي لم تكسر جدران فروعها وأقبيتها المنتشرة في عموم المحافظات السورية إلا شهادات من نجا وخرج ليروي قصصاً عن القتل بشتى أصناف التعذيب.
على الصعيد الأمني أعاد رأس النظام بحسب التقارير الأخيرة الرسمية والمسربة عبر الصفحات الموالية للأسد تموضع رجاله الأمنيين.
وعلى الصعيد الحزبي اتبع ذات الأمر، وكان لافتاً في حديثه خلال يناير وفي مايو الجاري، أنه ركّز على أن ما يحصل يرتبط بمتطلبات “المرحلة الجديدة”.
وكانت خطوة الأسد قبل 4 أشهر “بهدف تعزيز أداء القوات الأمنية في المرحلة المقبلة” بحسب التقرير الذي نشرته وكالته “سانا” على لسانه، وخلال خطابه أمام أعضاء حزبه، مطلع الشهر الحالي، أوضح أن “الحركة الجديدة في البعث تمثل تحولاً حقيقاً ومفصلا تاريخياً”.
“سلطوية من نوع آخر”
التحركان المزدوجان أمنياً على صعيد الأجهزة، وسياسياً ضمن البيت الداخلي لـ”البعث”، يأتيان بعد 13 عاماً من انطلاقة الثورة ضد نظام الأسد، وفي أعقاب اتجاه دول عربية لفتح أبواب التطبيع معه، لاعتبارات ارتبطت ببنود، لكن لم يترجم واحداً منها على الأرض.
وتتزامن مع حالة حبس الأنفاس المتعلقة بما ستفرزه نتائج الحرب الإسرائيلية المستمرة في قطاع غزة الفلسطيني، والتي بنظر مراقبين وخبراء ستسدل الستار عن مرحلة جديدة ما قبلها لن يكون كما بعدها إقليمياً.
ويوضح الباحث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، أيمن الدسوقي والناشط والكاتب السياسي السوري، حافظ قرقوط أنه لا يمكن فصل “إعادة الهيكلة” التي اتبعها الأسد أمنياً وحزبياً، في الفترة الأخيرة.
وفي الوقت الذي يتفقان به على أن “الأهداف مرتبطة بمآرب داخلية وخارجية”، يرى الدسوقي في حديثه لـ”السورية.نت” أن المرحلة التي يحاول الأسد فرضها الآن “خطيرة”.
وذلك لأنه يعمل على إعادة إنتاج نفسه (أي نظامه)،، وفي حال نجح وفق قول الدسوقي “سنكون أمام سلطوية من نوع آخر وأقوى أيضاً”.
ويضيف أن “هذه السلطوية التي يحاول الأسد تكريسها الآن سيكون لها تجربة في التعامل مع الأزمات، سواء الداخلية والخارجية، وتتخللها شبكات تبنى من جديد. وهنا تكمن الخطورة”، على حد تعبيره.
وكان الأسد قد دعي قبل أشهر لحضور اجتماعات القمة العربية في الرياض.
ومن المقرر أن يحضر ذات النسخة في قمة البحرين، خلال الأيام المقبلة. ويعطي هذان الحدثان مؤشراً على الوضع الذي بات عليه نظام الأسد ضمن المنظومة العربية.
ورغم أن الأبواب من داخل البلاد ما تزال مقفله أمامه، ولاسيما في الميدان أو على صعيد إعادة التأهيل على المستوى الدولي، إلا أن المزاج العام في الغرب يبدو أنه لا يعارض ذلك في المستقبل، لكن ضمن شروط وفدية لن تكون في صالح السوريين الثائرين، وتحقق المطالب التي خرجوا بها قبل أكثر من عقد.
“لغز البعث والعقائدية”
في خطابه أمام أعضاء اللجنة المركزية في “البعث” كان حديث الأسد يتمحور بين الماضي والحاضر، وبينما قال إن حزبه “واجه حلف بغداد والإخوان المسلمين” في البلاد، عاد ليكرر ذات الشتائم بحق معارضيه.
وعلاوة على ذلك، أكد في سياقٍ لازم خطابه الأخير الذي زاد عن الساعة على “المهمة الجديدة للبعث في الحروب العقائدية”، وعلى “المرحلة الإيديولوجية”.
وبينما شدد على دور حزبه في السلطة والبلاد، اعتبر أن “سياسات الحكومة يجب أن تنبثق من رؤية البعث،، دون أن يلغي أحدهما الآخر، لأن هناك حديثاً من وقت لآخر حول تراجع دور الحزب”.
وتابع بالقول إن “تراجع دور الحزب يعني إضعافه، وما يجري ليس تراجعاً وإنما إعادة تموضع”.
ويوضح الباحث الدسوقي أن “الانتخابات” التي أجراها “البعث” تأتي ضمن سياق متصل بدأه الأسد منذ بداية الثورة السورية لموائمة الحزب مع احتياجات كل مرحلة.
وتجلى السياق بداية بعملية “تطهير وتنظيف” للكوارد غير الموالية أو المتراخية التي كان لها سبب فيما حصل أو الفشل في احتوائه، وثانياً من خلال ضبط الهيكلية ونطاق عمل “البعث” ليكون “وطنياً أكثر منه قومياً”.
وفي مرحلة ثالثة عمل على رد الاعتبار لدور “البعث” وبثه في المجتمع وهياكل الدولة، وفق صيغة جديدة تحاول الاستجابة لمتطلبات ما بعد الصراع، وهو ما يحصل الآن.
ويمكن النظر أيضاً إلى “الانتخابات” وما تمخض عنها من نتائج كتغيير القيادة المركزية بأنها متسقة مع عملية إعادة إنتاج نظام الأسد لنفسه، حسب الباحث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”.
ويشرح أن ذلك يأتي بعدما تجاوز الأسد “خطر إسقاطه بفعل التدخل الروسي والدعم الإيراني واللامبالاة الأمريكية والتردد الإقليمي”.
الكاتب والناشط السياسي، حافظ قرقوط من جانبه يقول لـ”السورية.نت”، إن “البعث مازال أداة بيد الأسد، ويتحكم من خلالها بمفاصل المؤسسات، ولو مازالت حتى الآن المرجعية أمنية”.
ويعتقد أن “أي محاولة للتلاعب بأدوات السلطة من خلال النظام هي مقصودة ومدروسة”.
وبعد تغيير المؤسسة الأمنية انتقل لتطبيق ذات الإجراء في مؤسسة سياسية، ويضيف قرقوط أن “الأسد يريد القول إن الأخطاء السابقة مردها تلك المؤسسات المريضة المتهالكة، التي لم يتم تحديثها”.
كما يريد “إبعاد الديكتاتورية عن عائلة الأسد، في مسعى لإلصاقها بالبعث بشكله السابق”.
وكذلك على صعيد الأمن، فإن “إعادة الهيكلة الأخيرة” تعطي إيحاءً من جانب الأسد بأن “الأمن بشكله السابق كان فاسداً والآن بدأ التغيير”، حسب حديث الكاتب السوري.
“العودة للتوازنات المحلية”
ورغم أن نظام الأسد أجرى “انتخابات” كما وصفها وروج لها على مدى الأشهر الأربعة الماضية، فإن بشار الأسد عين 45 عضواً بنفسه، وذلك بعد توسيع اللجنة المركزية من 80 إلى 125 شخصاً.
واحتفظ بمنصب الأمين العام بـ”الإجماع”.
ومع ذلك يرى الباحث الدسوقي أن ما يمكن ملاحظته من نتائج “الانتخابات” أن الأسد التزم بما تجاهله سابقاً عند توليه السلطة أي “التوازنات المحلية”.
وكان تدخله بقائمة الـ45 “لمراعاة التشوهات التي أحدثتها العملية الانتخابية قدر الإمكان، بما يعطي مؤشر برغبته في إعادة تنشيط البعث مجتمعياً، من خلال مراعاة التوازنات المحلية القائمة في كل مكان، على أساس العرق والدين والطائفة والجندر”.
ويعتقد الدسوقي من جانب آخر أن “تركيز الأسد على الدور الإيديولوجي للبعث يندرج ضمن إعادة تعريف دوره وإنتاجه ليتلائم مع المرحلة القادمة”.
ويهدف أيضاً من وراء ذلك “إعطاء الشرعية وتجديدها، ليظهر البعث ومن خلفه الأسد على أنه الحامل الرئيس لسورية دولة ومجتمعاً”.
ويتسق ما سبق مع حديث الأسد الذي كرره في عدد من اللقاءات وهجومه على الليبرالية الغربية والمفاهيم المستوردة من الخارج، حسب حديث الباحث السوري.
ويعتقد الناشط السياسي قرقوط أن “كل ما يقوم به الأسد داخل بنية حزب البعث يراد منه توجيه رسائل للداخل لبعض الناس الذين ليس لهم عمق في السياسة، ومفادها أن (الرئيس يقوم بإصلاحات)”.
ويراد منها أيضاً توجيه رسائل للعرب وللعالم بأن “كل ما يرتبط بالديكتاتورية انتهى، بعدما كان مرتبطاً بالبعث السابق بالتحديد”.
ويقلل قرقوط من فعالية “البهرجة الإعلامية” و”الاستعراض السياسي” الذي فرضه الأسد على صعيد الاستجابة العربية والعالمية.
ويقول إن “ما يقوم به الأسد بين فترة وأخرى يريد القول من خلاله إنه موجود وفاعل ويصدر القرارات”.
“إعادة إنتاج نفسه”
وكان “البعث” قد غيّر في 2018 تسمية “القيادة القطرية” إلى “القيادة المركزية”، كما ألغي قبل 6 سنوات منصب الأمين القطري المساعد، ليبقى فقط منصب الأمين العام والأمين العام المساعد.
وبالعودة إلى الوراء وعندما كانت الاحتجاجات السلمية المناهضة لنظام الأسد في ذروتها أجرى “البعث” في 2013 بقيادة الأسد تغييراً شكلياً في قياداته.
وتحدث حينها رأس النظام عن “أخطاء متراكمة”، وعاد ليتحدث عنها مؤخراً في خطاب “الانتخابات”، التي حصلت قبل أيام.
ويشدد الباحث الدسوقي على فكرة أن “إعادة الهيكلة والتموضع التي اتبعها الأسد أمنياً وحزبياً في الفترة الأخيرة تندرج في إطار إعادة إنتاج نفسه بعدما أمن نفسه من الزوال”.
وجاء ذلك “إما لموائمة متطلبات مرحلة ما بعد الصراع أو أن الأسد اضطر على ذلك، لأن السير على الإجراءات القديمة سيكون أكثر تكلفة وإيلاماً”.
وفيما يتعلق بـ”رسائل الخارج” لا يستعبد الدسوقي مآرب نظام الأسد في ذلك، ويشير إلى أن رئيسه كان قد عيّن في القيادة المركزية لـ”البعث” شخصيات غير إشكالية ويعتقد أنه “يمكن التواصل معها”.
ويضيف أن “الأسد أراد أن يفتح باب مرحلة جديدة في البعث، ويندرد ذلك في إعادة إنتاج النظام لنفسه. وهذا له بعد داخلي وخارجي”.
ويحتاج الأسد لـ”البعث” لأنه بشكل أو بآخر بحاجة للمنظمات الرديفة التي تعمل تحت مظلته، مثل “اتحاد طلبة سورية” و”اتحاد العمال والفلاحين”، و”شبيبة الثورة” و”طلائع البعث”، حسب الكاتب قرقوط.
ويرى أن “الأسد يتلاعب بالمفردات الحزبية فقط، دون أن يكون قادراً على الاستغناء عنه (البعث) وعن أدواته”.