لعل السبب هو في كون المهرّجين الرئيسيين اللذين بذلا جهداً إستثنائياً في تقديم العرض كواحد من أهم أعمالهما الثنائية، لم يوفّقا هذه المرة، ولم يتمكنا من إقناع جمهورهما وهواة سيركهما المفتوح بأنهما يصنعان التاريخ، ويكتبان أحد فصوله المهمة. بالغا في إصطناع تعابير الوجه الرزينة، وفي إفتعال حركات جسدية غير متناسبة مع اللحظة التي يفترض ان العالم كله كان يتابعها.
كانت فكرة العرض وحواره ووقائعه معروفة سلفاً، فغاب عنصر الاثارة والتشويق: ما سربه الاسرائيليون على مدى الشهور القليلة الماضية، كان مطابقاً جداً. بدا أن ترامب كان يقرأ من صفحات “يديعوت احرونوت” و”هآرتس”، و”إسرائيل اليوم”، يتحدث بلغة عبرية سليمة، ناطقاً بإسم “الدولة اليهودية”، شارحاً “المصالح الاسرائيلية” أفضل من أي إسرائيلي. وما كان على المهرج الرديف نتنياهو سوى ان يوضح ما فات عن تجريد الفلسطيني من حق العودة، وإخضاعه لإمتحان الجدارة والاهلية الذي قد يطول لسنوات أو ربما لعقود.. لكي يحصل على خمسين مليار دولار، مقسطة على عشرة أعوام، ثمن حقوقه الوطنية التاريخية!
لكن بطل العرض، ومهرجه الاول، وكعادته ، لم يترك الجمهور بلا إرباك وتشوش: السيرك سيظل مفتوحاً طوال السنوات الاربع المقبلة! من دون أن يوضح ما الذي يقصده بتلك الفترة، او المهلة الممنوحة للشعب الفلسطيني. هل هو العمر المتبقي للرئيس محمود عباس الذي قال لا مشفوعة بشتائم لترامب وفريقه لم يسبقه عليها أحد؟ هل هي مدة الولاية النهائية للسلطة الفلسطينية وما يليها من مجهول ؟ هل هي المدة المفترضة لبقاء نتنياهو في الحكم ، مع أنه بات على أبواب السجن؟
لا يمكن ان يكون ترامب قد قصد ولايته الثانية التي ينشد الفوز بها في إنتخابات تشرين الثاني نوفمبر المقبل. فهو لا يضمن الفوز، وإن كان يعتبر ذاك السيرك وسيلته لإجتذاب الاصوات اليهودية الاميركية المناهضة له. كما أن مهلة السنوات الاربع التي حددها تنتهي في العام 2024 ، أي عندما يصبح هو في سنته الاخيرة في البيت الابيض عاطلاً عن العمل وعاجزاً حتى عن تقديم عروض التهريج في “الدولة اليهودية” نفسها.
لكن ما شوهد في السيرك بالامس لم يكن كله مثيراً للحيرة : ستحفظ الذاكرة أن ما يسمى بصفقة القرن، هو بمثابة أعلان نوايا اليمين الفاشي الاميركي والاسرائيلي تجاه الفلسطينيين والعرب جميعا. إنكار وجود الشعب الفلسطيني الخاضع للاحتلال المباشر، والتنكر لصلته بأرضه التاريخية ولحقوقه الوطنية غير القابلة للتصرف، لا يمتان الى الخداع بصلة. هما خطة إستراتيجية بعيدة المدى، ما زال الاميركيون أنفسهم والاسرائيليون أيضا يجادلون الآن في فرص نجاحها، لا في جدوى إطلاقها!
نوايا الحد الاقصى الاميركي الاسرائيلي، باتت معروفة. البحث فيها يستغرق أربع سنوات، قد لا يكون فيها ترامب ونتيناهو في السلطة. لكنها صارت أشبه بوصايا حاكمة، وإن يكن غير ملزمة، لمن يأتي بعدهما. أسوأ ما فيها أنها تطلق حملة سياسية وربما عسكرية، لتطويع الشعب الفلسطيني، ولجذب دول عربية جلست في كواليس السيرك، وسقطت ثلاث منها أمام جمهور العرض الاول، الى الالتحاق العلني في تنفيذ الوصايا الاميركية الاسرائيلية..وإلا فإن إيران الجاهزة للسيطرة على المزيد من العواصم العربية، ستكون بالمرصاد.
أربع سنوات عجاف، أهم ما فيها أنها ستطلق نقاشاً فلسطينياً وعربياً داخلياً مفقوداً حول القضية الفلسطينية ، يطرح من جديد الاسئلة الاولى التي طرحت منذ أن صدر وعد بلفور، الى أن قامت دولة إسرائيل، الى أن إقتُرح حل الدولتين، الى أن صدر “وعد ترامب” الذي يبدو اليوم مثيراً للسخرية، لكنه قد يصبح غداً، قدراً لا يرد.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت