يؤكد التجاذب التركي ـ الروسي، الحاصل مؤخّرا حول منطقة إدلب، أن لا شيء مستبعدا في الصراع السوري، وضمن ذلك الصراع الدولي والإقليمي على سوريا، لجهة تغيّر تموضع اللاعبين أو تبدّل أدوارهم، أو اختلاف أجنداتهم، والذي قد ينذر في حال تصاعده بتفكيك تحالف أستانة الثلاثي، الذي نشأ مطلع العام 2017، أي قبل ثلاثة أعوام.
وفي الحقيقة فإن التحالف الثلاثي المذكور كان واحدا من أهم غرائب ذلك الصراع وتداخلاته وتداعياته المفاجئة، الذي ضم تركيا، التي تعتبر حليفا أو مساندا للمعارضة السورية، من جهة، وكلا من روسيا وإيران، حليفتي أو شريكتي النظام السوري في مساعيه للحفاظ على السلطة بالقوة، من الجهة الأخرى. ويأتي في هذا الإطار ابتعاد أجندة تركيا عن أجندة الولايات المتحدة، ورعايتها لقوات “قسد”، التابعة لحزب بي.واي.دي (حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي) رغم علمها أن ذلك سيكون على حساب علاقاتها مع تركيا.
عموما فإن التجاذب الروسي ـ التركي وصل حد حشد تركيا قوات كبيرة في الأراضي السورية المحاذية لحدودها، لاسيما في ريفي حلب وإدلب الشماليين، وإسقاط طائرة هيلوكوبتر عسكرية سورية بواسطة مضادات طائرات، الأمر الذي ما كان يمكن توفره سابقا. وطبعا تأتي ضمن ذلك التهديدات غير المسبوقة التي وجهها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي توعد بالرد على أي اعتداء على النقاط التركية المتوغلة في البر وفي الجو، في إدلب وفي أماكن أخرى، في رسائل ذات مغزى لأطراف عديدة، وليس فقط للنظام.
ومعلوم أن نقاط المراقبة العسكرية التركية، تم الاتفاق عليها في قمة سوتشي (سبتمبر 2018)، وجرى التأكيد عليها في قمة سوتشي 2 (أكتوبر 2019)، وتلك نقطة قوة الموقف التركي، لاسيما أنها مسندة أيضا، باتفاق أضنة (1998) الذي وافقت فيه الحكومة السورية (في عهد حافظ الأسد) على دخول قوات تركية أراضيها لملاحقة جماعات إرهابية، أو لصد جهات تهدد أمنها.
ثمة عدة ملاحظات هنا، أهمها:
- أولا، أن سوريا باتت منطقة تجاذب وتوجيه رسائل بين روسيا وتركيا، إذ أن قيام القوات السورية بالاشتباك مع القوات التركية، وقتل 14 عسكريا في عمليتين في النصف الأول من هذا الشهر، هو بمثابة قرار روسي، أو رسالة روسية، تتوخى الضغط لتحجيم الوجود التركي في الشمال السوري. وبالمثل فإن تركيا في توجيهها ضربات عسكرية للجيش السوري، وإصدار تصريحات قوية، كانت تبعث برسائل مماثلة للطرف الروسي، وإن بطريقة مداورة، مفادها أنها لن تسمح بتحجيمها.
- ثانيا، فيما تبدو المعركة على منطقة إدلب، وعلى فتح طريقي دمشق حلب، وحلب اللاذقية، الدوليين، فإن الأمر على ما يبدو بات يتجاوز ذلك إلى حد إزاحة تركيا من المنطقة تماما، باعتبار أن تركيا ليست لديها مشكلة مع فتح الطريقين، وإنما المشكلة كانت في توغل قوات النظام خلف القوات التركية. ويعني ذلك أن روسيا تتوخى من ذلك فتح التفاوض مجددا على اتفاقيها السابقين مع تركيا، لاسيما الذي تم توقيعه قبل أشهر قليلة في أكتوبر 2019، والذي وافقت فيه تركيا على فتح الطريقين، مقابل موافقة روسيا على تمكين تركيا من إقامة منطقة آمنة تركية، وهو ما تم فعلا بنتيجة عملية “نبع السلام”، التي نجمت عنها إزاحة القوات الكردية، بين رأس العين وتل أبيض بعمق 30 كم وطول 120 كلم (أكتوبر 2019)، وإقامة تلك المنطقة؛ التي أضيفت إلى منطقتين سابقتين، هما عفرين وريف حلب الشمالي والشمالي الغربي، وكل ذلك بهدف الحؤول دون إيجاد منطقة تواصل إقليمي حيث تتواجد قوات “قسد” الكردية.
- ثالثا، من الصعب فهم التطور في الموقف التركي، وفقا للمعطيات التركية لوحدها، إذ شهدنا أن الولايات المتحدة دخلت على الخط بقوة، عبر وزير خارجيتها مايك بومبيو ووزير دفاعها مارك أسبر (اجتمع الثلاثاء مع وزير الدفاع التركي في بلجيكا على هامش اجتماع لقادة الناتو) ومستشار الأمن القومي روبرت أوبراين، وعبر جيمس جيفري مبعوثها إلى سوريا، الذي أتى إلى تركيا قبل أيام، وجميعهم أكدوا دعمهم، بل ودعم حلف الناتو القوي لتركيا، والمعنى من ذلك أن تركيا ليست وحيدة في مواجهة محاولات روسيا استهدافها، وهذا ما يعزز موقفها سواء في المساومة مع روسيا، أو في محاولتها صد محاولات روسيا تحجيمها.
- رابعا، لا يمكن الاستنتاج من ذلك أن الطرفين الروسي أو التركي سيذهبان بعيدا إلى حد الاشتباك أو فكفكة المصالح المشتركة بينهما، إذ أن حالة التجاذب الراهنة يتوخى كل واحد منهما ومن خلالها، تقليل مكاسب الطرف الآخر. هذه هي اللعبة حتى الآن، إلا إذا توافرت ظروف مختلفة، وأهمها تغير عملي وقوي في موقف الولايات المتحدة إزاء الصراع السوري، بمعنى أن الطرفين لوحدهما سيفضلان الذهاب إلى تسوية، وهذا هو الأرجح.
- خامسا، في الغضون لا يمكن استبعاد أن الخلاف الروسي ـ التركي ربما يكون بداية خلاف أكبر وأبعد من سوريا، وهو ما شهدنا بعض ملامحه في اختلاف الأجندة الروسية ـ التركية في ليبيا.
في كل الأحوال، فإن تركيا خسرت كثيرا جراء ذهابها بعيدا في علاقاتها مع روسيا، على حساب علاقاتها مع الولايات المتحدة، وهي خسارة دفع ثمنها أيضا الشعب السوري، الذي وجد نفسه تحت رحمة القصف الجوي الروسي طوال سنوات ثلاث، حاولت خلالها روسيا فرض ذاتها كصاحب القرار السيادي في سوريا، إزاء كل الأطراف الأخرى، طبعا ما عدا الولايات المتحدة.
الآن، هل نحن إزاء حقبة جديدة في الصراع السوري؟ أو هل أن تلك الحقبة ستؤذن بغروب الصراع العسكري في سوريا، والحث على فرض حلول جديدة؟ أم العكس؟
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت