بعد تداول أخبار عن نيّة “هيئة تحرير الشام” حلّ نفسها، دون أي تأكيد أو نفي من الهيئة ذاتها، وعلى الرغم من كونها لاتزال في إطار الإشاعات، تعود تلك الأخبار لتثير سؤال المستقبل حول مصير التنظيم الذي أعلن عن تأسيسه في كانون الثاني 2012 تحت مسمى “جبهة النصرة”، ليتطور بمراحل مختلفة ومتسارعة وإشكاليّة، وصولاً إلى البنية الحالية.
ولا يمكن الإجابة عن هذا السؤال دون الأخذ بالاعتبار عاملين، الأول: وهو العامل الذاتي المتمثل ببنية وطبيعة الهيئة ذاتها، والثاني العامل الموضوعي الذي تشهده الجغرافية التي تنشط فيها الهيئة، والمتمثل بالحملة العسكرية على محافظة إدلب، وما قد يترتب عليها من تفاهمات واتفاقات سياسية ستحدد مستقبل الملف السوري، وتموضع هيئة “تحرير الشام” ضمنهُ.
وعلى ما يبدو أن الهيئة في المستقبل القريب أمام خيارات محدودة، خاصة مع الرفض الدولي والإقليمي وتصنيفها على لوائح الإرهاب، الخيارات التي قد تتراوح بين قرار الصدام حتى النهاية، وفي حال الاقتراب منها، التشظي كتنظيم والتحول إلى مجموعات تمارس نشاط عسكري متقطع بعيداً عن مفهوم التمكين والاستحواذ على الأرض، إلى تكتيكات مختلفة وجديدة، أو التوجه إلى تجنّب هذا الخيار عبر قرارات تنظيمية تكتيكية، على رأسها حلّ الهيئة كتنظيم، لكن الحلّ بمعنى التغير الشكلي والتكتيكي للبنية التنظيمية، وليس الإجهاز عليها.
وباعتقادي، قد تلجأ الهيئة فعلاً إلى خطوة الحلّ بهذا المعنى الإجرائي، بغض النظر عن شكل هذا الحلّ وجديته وتوقيته، وذلك بناءً على عدة معطيات تتعلق بطبيعة الهيئة وعقليتها ونهجها، إضافة لدورها الوظيفي ضمن الظرف السياسي والعسكري القائم، وتتوزع أبرز تلك المعطيات وفق ما يلي:
١- العقلية:
تمتلك “هيئة تحرير الشام” عقليَة براغماتية مرنة هيئتها لتكون أبرز الفاعلين المحليين على المستوى العسكري على الأرض خلال سنوات الصراع، هي ذات العقلية التي دفعتها للخروج من عباءة “تنظيم الدولة” ومبايعة “تنظيم القاعدة” (الهروب من الفرع إلى الأصل)، ومن ثم فك الارتباط عن تنظيم “القاعدة” والتخلص من ثقل هذه التركة، والتحول من “جبهة النصرة” العابرة للحدود إلى “جبهة فتح الشام” ذات البعد المحلي، ومن ثم تأسيس “هيئة تحرير الشام”، والتخلص من أكبر قدر من العنصر الأجنبي الذي لم ترضه تلك التحولات، والذي خرج ليؤسس مجموعات أخرى أكثر تشدداً كـ”حراس الدين” وغيرهم، وبذلك وقع مجال التمايز، بين متشدد وأكثر تشدداً، وأجنبي ومحليّ.
ذات العقلية التي دفعتها كتنظيم لتجاوز مفهوم السيطرة والدور العسكري فقط، إلى محاولات توسيع النفوذ على عدة مستويات في إطار إطباق السيطرة على إدارة المناطق المحررة، سواء عبر التغلغل في الإدارة المحلية والمساهمة بتأسيس حكومة الإنقاذ ومحاولة السيطرة على المجالس المحلية وإدارة الجزء الأكبر من المُحرر، أو على المستوى الاقتصادي عبر السيطرة على المعابر وشبكات الطرقات الرئيسية، أو على المستوى العسكري والأمني عبر استراتيجية إنهاء الفصائل وابتلاعها والتمدد بالهيمنة والنفوذ.
هي ذات العقلية التي رشحت الهيئة لتكون شريك يُعتمد عليه من قبل بعض القوى الإقليمية، وشجعت حتى أعدائها للتعاطي معها بصفقات، فالهيئة أكثر الأطراف المحليّة التي عقدت صفقات تبادل مع إيران وحزب الله، وغيرها من صفقات التبادل على مستوى دولي. وبذات العقلية قد تتحذ “هيئة تحرير الشام” خيار حلّ ذاتها، إذا وجدت في ذلك أقل الأضرار وأهون الشرين.
٢- قراءة الواقع:
تدرك الهيئة تماماً، أن أي اتفاق سياسي قد ينجز بين موسكو وأنقرة، سينهي ملف الطرقات الدولية كبند ثان من اتفاق “سوتشي”، بعد أن تم ترسيم المنطقة العازلة كبند أول، ليبقى بند مكافحة التنظيمات الإرهابية، وعلى رأسه تفكيك الهيئة، والذي سيكون عنواناً للمرحلة القادمة. وبغض النظر عمن سيتكفل بتلك المهمة، التي تقع وفق اتفاق “سوتشي” على عاتق تركيا، فإن الهيئة تدرك أن الصدام العسكري لن يكون لصالحها، فأي معركة بعد الطرقات الدولية سيكون ضمن معاقلها ومناطق نفوذها بعد الانحسار الجغرافي الكبير نتيجة المعارك الحالية، خاصة وأن موسكو والنظام سيروجان لتلك المعركة، كـ”معركة المجتمع الدولي” وليس معركتهما فقط، باعتبارها مواجهة مباشرة مع تنظيم إرهابي، بل ستسعى فيها موسكو لتحقيق نصر إعلامي كنصر ترامب على ” تنظيم الدولة”. ناهيك عما قد ينتج عن هذه المعركة من كارثة على المدنيين، هذا إن سلمنا جدلاً بأن الهيئة تكترث للمدنيين، بعد التسليم أن روسيا والنظام هدفهم المدنيين قبل الهيئة ذاتها. لذلك فإن تجنب هكذا معركة يدفع الهيئة لترجيح قرار الحل الشكلي وتجنب الصدام، وسيدفع للضغط عليها أيضاً من أطراف إقليمية باتجاه هذه الخطوة لتجنب كارثة إنسانية على الحدود.
٣- عدم انتهاء الصلاحية:
وفق التحالفات التي تديرها الهيئة، لا يبدو أن دورها الوظيفي قد انتهى، بل على العكس، تبدو أطراف عديدة أشد ما تكون بحاجة للهيئة خلال هذه الفترة، خاصة مع تحول إدلب إلى ساحة لتصفية حسابات المحاور ومسرحاً للصراعات الإقليمية والدولية بالاعتماد على أطراف محليّة، وأن تلك الحسابات قد تتقاطع في جزء منها مع وجود الهيئة وبقائها كفاعل محلي مؤثر على الأرض، ولكن بشكل جديد لهذا الوجود، لذلك فإن قرار الحلّ والتحول إلى شكل تنظيمي جديد، قد يكون مقدمة لأدوار وظيفية جديدة تتناسب ومعطيات المرحلة القادمة. وهذا ما يرجح أيضاً جنوح الهيئة نحو هذا الخيار، أو دفعها وتشجيعها عليه أو الضغط عليها باتجاهه. إذ من الممكن أن تتقاطع مصالح الهيئة في الحل والتحول إلى شكل تنظيمي جديد مع مصالح أطراف أخرى.
٤- المنهج:
بالنهاية، فإن “هيئة تحرير الشام” كتنظيم سلفي جهادي، قد يحتاج في بعض القرارات المفصلية إلى تبريرات شرعيّة، على الأقل لضبط الصف العقائدي لمقاتليه وإقناعهم بأي تحول، وإن ما مرت به “هيئة تحرير الشام” من تحولات تنظيمية لم يكن عشوائياً، وإنما كان ضمن استراتيجية جديدة لجماعات وتنظيمات الجهاد المعولم، الاستراتيجية القائمة على الاتجاه من المركزية العابرة للحدود إلى المحليّة والنزوع للتوطين، من الجهاد الأممي إلى المحلي، أو بعبارة أخرى: “الانتقال من جهاد النخبة إلى جهاد الأمة”، بشكل يمكنها من التأثير المحلي وضمان قاعدة شعبية أوسع لأفكارها والحد من العزلة التي غالباً ما تقع التنظيمات الجهادية ضحية لها، وهذا ما حدث بين “النصرة” و”القاعدة” (فك الفرع عن الأصل) بالتوافق، فضمن هذا التوجه مثلت “جبهة النصرة” تجربة جديدة لتنظيم “القاعدة”، والحامل الأساسي لقياس نجاعة هذه الاستراتيجية، وتكرر هذا مع غيرها من فروع “القاعدة” في اليمن وأماكن أخرى، خاصة بعد تراجع المشاريع الأممية وتحول مركز الجهاد من أفغانستان إلى المشرق العربي وبروز “تنظيم الدولة” وسحبه البساط الجهادي من تحت “القاعدة” بإعلانه الخلافة واستقطاب أكبر عدد من المهاجرين، لذلك فإن الإطار موجود وجاهز لأي تحول محتمل، بل إن تحول الشكل التنظيمي سيكون تكتيك ضمن استراتيجية أوسع للنزوع نحو التوطين، النزوع الذي لم يقتصر على الحقل السلفي الجهادي، وإنما شمل أغلب الأيديولوجيات العابرة للحدود في المنطقة.
وبناءً على كل ما سبق، فلا يمكن استبعاد خيار الهيئة بحلّ نفسها، بغض النظر عن شكل هذا الحلّ وكيف سيكون، وبغض النظر كذلك عن توقيته، وفي حال حصل، فسيكون في المرحلة الأولى منهُ إعلاناً إعلامياً شكلياً، وذلك نتيجة لارتباط نهاية ملف الهيئة بعدة ملفات أخرى لم يتم حسمها بعد، وكذلك لما سيترتب على ذلك من تبعات على الأرض والجبهات والمستوى الإداري في مناطق نفوذها، ففي حال تم فلن يكون سوى إعلان كمرحلة الأولى، ليتم بعدها على مراحل لاحقة خروج آخر كتلة أجانب من القيادات ومن يرفض التحول، خاصة وأن خطوة الحل ستسبب انقسامات عامودية وأفقية في بنية الهيئة، والتي من المرشح أن ترتصف مع باقي التنظيمات المصنفة إرهابية ويغلب عليها العنصر الأجنبي، لتشكل كتلة صلبة تواجه انعدام الخيارات بالنسبة للأجانب، فيما سيعاد تشكيل العنصر المحلي السوري، وهو الطاغي، وفق بنية جديدة.
لن تكون نهاية “هيئة تحرير الشام” بالسهولة التي يعتقدها البعض، كما أنها ليست بالاستحالة التي تروج لها الهيئة، ليبقى مستقبلها رهناً بخياراتها، والمرتبطة بدورها بطبيعة التوافقات الدولية والإقليمية وشكل الحل السياسي في سورية.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت