لماذا تميزت تركيا في مواجهة كورونا؟
بالنظر للعدد الإجمالي لحالات فيروس كورونا المستجد، تحتل تركيا مؤخراً المرتبة السابعة عالمياً إثر تسجيلها 110 آلاف و130 حالة إجمالية يوم أمس الأحد، متخطية بذلك كلاً من إيران والصين. ورغم ذلك، تقول مؤشرات أخرى إن تجربة تركيا مع الوباء كانت من ضمن الأميز، على الأقل لدى مقارنتها ببعض الدول الأوروبية المتقدمة.
تظهر إحصاءات الأسبوع الماضي منحنى إيجابياً متدرجاً ومستقراً في مختلف المؤشرات المتعلقة بالوباء في تركيا. فعدد الحالات الجديدة تراجع من 4674 إلى 2357، وعدد الوفيات اليومية من 123 إلى 99، ونسبة الإصابات للفحوصات من 11.7 في المئة إلى 7.8 في المئة، بينما ارتفع عدد المتعافين من المرض إلى أكثر من الضعفين.
توحي هذه المؤشرات المطردة بأن تركيا حالياً في مرحلة الذروة، وأنها قريباً ستكون على موعد مع انحسار الحالة وتراجعها، ما لم تحدث مفاجآت غير سارة. وصولها للذروة في الأسبوع الخامس تقريباً من بدئها تسجيلَ الحالات أدى، مع عوامل أخرى، إلى قلة عدد الوفيات مقارنة بالدول الأخرى التي تسبقها أو تتبعها في سلم الترتيب سالف الذكر.
ذلك أنه باستثناء ألمانيا، التي يزيد عدد وفياتها الضعف عن تركيا، ثمة فوارق شاسعة بين أعداد الوفيات التركية (2805) والدول التي تسبقها في الترتيب، والتي تتراوح بين 20 ألفا و50 ألفا بشكل تقريبي. حتى الدولتان اللتان تليانها في الترتيب، وهما إيران والصين، يبلغ عدد الوفيات فيهما 5710 و 4632 على التوالي.
وإن كان ذلك يشير من جهة إلى عدم دقة اعتماد أعداد الإصابات معياراً وحيداً لتقييم حالة الوباء في الدول المختلفة، وإلى أن ارتفاع أعداد الإصابات هو حصيلة عدة عوامل في مقدمتها عدد الفحوصات المجراة، فإنه يشير من جهة أخرى إلى أن الوباء يبدو تحت السيطرة في تركيا أكثر من أي وقت مضى وأنها وصلت لمرحلة الذروة بالتكلفة البشرية الأدنى. وقد ذهب عضو اللجنة العلمية في وزارة الصحة البروفيسور أتيش كارا إلى أبعد من ذلك، حين رأى إن تركيا قد بدأت فعلياً الانحدار من مرحلة الذروة.
وفي حال استطاعت البلاد الاستمرار بنفس المنحى ودون بدء موجة ثانية من الوباء، ثمة توقعات بتخفيف الإجراءات الحكومية بشكل تدريجي بعد شهر رمضان مباشرة، أي في أواخر أيار/مايو المقبل، وهو الأمر الذي كان الرئيس أردوغان قد أشار له كاحتمال.
فوفق هذه النظرة، وفي حال استمرت حالة تراجع المرض بهذا الشكل، يسود اعتقاد بأن نهاية أيار/ مايو أو بداية حزيران/ يونيو ستشهد خطوات ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية، من قبيل تخفيف حظر التجول على المسنّين (بل ربما قبل ذلك)، وإتاحة عمل المطاعم والمحلات المهنية الصغيرة، وعودة عمل الوزارات والمؤسسات الحكومية بشكل شبه طبيعي.
أما الخطوات التي تشمل تجمعات كبيرة واحتاكاكات جماهيرية، مثل افتتاح المدارس وعودة صلوات الجماعة وحضور الجماهير المباريات الرياضية، فغالب الظن أن تتأخر عن ذلك زمنياً، وسيكون قرارها مرتبطاً بمدى فائدة و/أو خطورة الخطوات السابقة عليها والتي ستُرصد بالتأكيد عن كثب.
ثمة أسباب كثيرة ساهمت فيهذه الصورة الإيجابية التي قدمتها وتقدمها تركيا حتى اللحظة، والتي لم يكن يتوقعها الكثيرون، أهمها:
الأول، الهرم السكاني. يعد الشعب التركي من الشعوب الفتيّة، حيث بلغت نسبة من هم فوق عمر 65 منه 5.8 في المئة فقط عام 2019، وهي نسبة أقل بكثير من معظم الدول الأوروبية والغربية. وإذا ما تذكرنا أن نسبة الوفيات بين المسنين وذوي الأمراض المزمنة (ومعظمهم من المسنين مجدداً) ندرك إلى أي مدى كانت تركيا محظوظة بذلك.
الثاني، الإجراءات المبكرة. رغم الانتقادات التي وجهة للحكومة لعدم إعلانها حظراً تاماً للتجول، إلا أنها أصدرت قرارات مبكرة ومتدرجة لمنع تفشي الوباء ثم لاحتوائه. في مقدمة تلك القرارات حظر الطيران من وإلى الصين ثم غلق الحدود البرية مع إيران خارجياً، وتعليق الدراسة في المدارس والجامعات وصلوات الجماعة في المساجد والأنشطة الرياضية المختلفة داخلياً، في وقت لم تكن قد سجلت فيه أي حالة وفاة.
وقد تبع هذه الخطوات الأولية خطوات أخرى إضافية بالتدريج على وقع انتشار المرض في تركيا والعالم، وصلت لحد فرض حظر التجول “الجزئي” على مراحل، كانت آخرها لمدة أربعة أيام في 31 محافظة.
ولعله من المهم الإشارة إلى أن التدابير الحكومية ليست ذات فائدة كبيرة ما لم يلتزم بها الناس، ما يدفعنا لتسجيل نسبة فوق المقبولة من الالتزام الشعبي بالقرارات الحكومية حتى اللحظة.
الثالث، كبار السن. لأهمية الأمر، يمكن إفراد قرار تحديد حركة من هم فوق عمر 65 كأحد أهم الأسباب، حيث ساهم ذلك بشكل مباشر في تقليل عدد الوفيات بين هذه الشريحة (الأكثر تعرضاً للخطورة) لأقل من النصف في فترة زمنية قصيرة نسبياً.
الرابع، البروتوكول العلاجي. استفادت تركيا في البدايات من البروتوكولات العلاجية في بعض الدول الأخرى وأهمها الصين، إلا أنها طورت مع الوقت بروتوكولها الخاص بها بناء على خبرتها التراكمية. ولعل أهم ملامح هذا البروتوكول هو بدء الأدوية في وقت مبكر وتأمينها مجاناً لكافة المرضى، باختلاف واضح عن معظم دول العالم.
الخامس، الوقت. أظهرت مؤشرات المرض في الأيام القليلة الأخيرة تراجعاً ملحوظاً وسريعاً جداً يصعب تفسيره بالأسباب سالفة الذكر حصراً، ما يوحي بأن الوقت كان عاملاً مساهماً كذلك. ليس واضحاً ما إذا كان ذلك مرتبطاً بارتفاع أعداد المصابين، في الواقع وليس فقط المشخّصين بالفحص، وبالتالي تراجع وتيرة الانتشار، أم بتغيرات طرأت على الفيروس وفاعليته مع الوقت، أم بدفء الطقس مع قرب انتهاء نيسان/ أبريل.
صحيح أنه ليس هناك أي دليل علمي دامغ على أن درجات الحرارة المرتفعة تقتل الفيروس، لكن هناك بعض المؤشرات على أن فاعليته قد تتراجع مع الطقس الدافئ بالمقارنة مع فصول الشتاء. ولعل ذلك مما يفسر الفروق الهائلة في حالة الوباء بين النصفين الشمالي والجنوبي للكرة الأرضية، وكذلك تراجع الجائحة مؤخراً بشكل لافت في عدد من الدول منها تركيا بوتيرة مفاجئة وغير متناغمة مع الإجراءات المتـّبعة والمسار العام.
في الخلاصة، رغم عدد الإصابات الكبير، تتمايز تركيا بعدد وفيات قليل عن دول أوروبية عديدة، في مقدمتها الرباعي إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وبريطانيا التي تضم 75 في المئة من وفيات القارة الأوروبية من كورونا. تساهم في هذا التمايز عدة عوامل ذاتية وموضوعية جعلت من تخفيف الإجراءات الحكومية بعد عيد الفطر احتمالاً مرجحاً.
لكن ذلك يبقى مشروطاً باستمرار مسار التراجع والالتزام الشعبي وتجنب موجة ثانية من الوباء، وهي عوامل كفيلة بإخراج الأمور مرة أخرى عن السيطرة، الأمر الذي يرجح بأن تكون الخطوات التخفيفية بطيئة ومتدرجة ومرصودة للتقييم الدقيق قبل الانتقال من مرحلة لأخرى، وهو ما يعني أن العودة الكاملة للحياة الطبيعية قبل كورونا ليست وشيكة، بل قد تنتظر عام 2021 في حال لم يوجد لقاح أو دواء شافٍ منه.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت