قاموس تبريرات ومَنْطَقَة و”شرعنة” تدَخُّل روسيا، وأفعالها في سوريا، يكاد ينافس بحوامله وأساليبه وتلوّنه أعتى القواميس. صنّاع القاموس الروسي هذا إعلاميون و”باحثون” يدورون في الفلك الروسي-الأسدي، وينهلون من دوائر السياسة والاستخبارات للبلدين.
يستند التدخل العسكري الروسي في سوريا برأي هؤلاء إلى دعوة من سلطة “شرعية” سوريّة، ضاربين بعرض الحائط حقيقة موضوعية تقول إن أي سلطة تقتل وتعتقل وتدمر حياة شعبها، إذا عارضها أو احتج على فسادها، تفقد شرعيتها. ربما يُعذَر هؤلاء، إذا كانوا يأخذون من فِعْلَة موسكو في الشيشان أداة القياس “للشرعية”.
هناك عقدة روسية تدفع الساسة الروس لاعتبار أمريكا وراء أي خلل يحدث في روسيا أو العالم. عندما يقول مسؤول أمريكي إن “موسكو غير راضية عن الأسد، لكن المشكلة أنها لا ترى بديلا”، يستشيط أحد المرافعين عن روسيا غضباً معتبراً ذلك انتقاداً للسياسة الروسية، فيعيد السهام إلى نحر أمريكا بقوله إن روسيا “لا تتدخل في شؤون الدول، ولا تلجأ للألاعيب الإعلامية والحرب الهجينة وتحريض الشعوب على حكامها وأنظمتها”؛ والمقصود ها هنا أن مَن يفعل ذلك، هو أمريكا. إذا كان السيد المرافع يعتبر ذلك أفعالاً قبيحة؛ أليس هذا بالذات ما تقوم به روسيا في سوريا؟!؛ ولكن في الحالة السورية، روسيا لا “تحرض الشعوب على حكامها”- كما يرى في أفعال أمريكا- بل تساعد الحاكم بقتل شعبه.
يرى أحد هؤلاء – الأستاذ رامي الشاعر- في مقاله الأخير، أن كل ما قامت به موسكو هو “محاربة للإرهاب في سوريا، وفتح مسار أستانا لوقف إطلاق النار، لتوفير الأرضية المناسبة كي تلعب الأمم المتحدة دوراً في إيجاد حل سياسي في سوريا”. وهنا نسأل: أي إرهاب هذا الذي حاربته موسكو؟ أهو إرهاب الأسواق والمشافي التي كانت تقصفها بحجة الإرهاب؟ ألم تبتدع موسكو مسار أستانا لإجهاض بند “وقف إطلاق النار” في القرارات الدولية، وتحويله إلى ما سمّته “خفض تصعيد” كي يسهل عليها قضمه لاحقاً؟ ألم تعمل موسكو على إضافة بعد سياسي لأستانا بطرحها دستور لسوريا؛ وبهذا تُفرغ مسار جنيف السياسي من مضمونه وتحيّد الأمم المتحدة؟ ألم تعقد مؤتمراً لـ “الشعوب السورية”-حسب تعبير بوتين- اضطرت لدعوة الأمم المتحدة إليه حتى يكون له شرعية، بعد أن هددت هذه الأخيرة بعدم الحضور، إن لم يكن المؤتمر تحت رعايتها؟! يَثْبُتُ بالدليل القاطع أن روسيا هي الأكثر كلاماً عن تطبيق القرارات الدولية بخصوص سوريا، ولكنها الأكثر التفافاً عليها، وعرقلة لها.
يستنكر السيد الشاعر انتقاد البعض، ويرفض اتهامهم له بالدفاع عن روسيا، وتجاهله حقيقة أن روسيا”حوّلت سوريا إلى حقل تجارب لأسلحتها وتدريب ضباطها وجنودها، ما أسفر عن مقتل آلاف المدنيين السوريين”. يقف الشاعر عند اتهام تحويل روسيا لسوريا إلى “حقل تجارب للأسلحة الروسية” معتبراً ذلك تجنيًا. وهنا أنقل مرافعته حرفيًا: ” بصراحة إنه من الممكن أن تكون روسيا قد قامت باختبار بعض التقنيات العسكرية الروسية الحديثة أثناء أدائها المهمة العسكرية في سوريا…”. دعونا ها هنا بمعية السيد الشاعر نتذكّر أن الرئيس بوتين ذاته قد صرح بأن روسيا اختبرت أكثر من ثلاثمائة صنف من الأسلحة، التي أثبتت فاعليتها في سوريا؛ ولكن الكاتب للأسف يتحدث عن احتمالية: “… من الممكن أن تكون…”. الملفت كان بشرحه وتبريره للهدف الروسي من ذلك؛ حيث يقول: “…لكن الهدف من ذلك، إذا ما كان قد حدث بالفعل، فإنه لتفادي سقوط المدنيين”. وهنا أيضاً، لا يزال يستبعد “احتمالية” تجريب أسلحة روسية على الأرض والأرواح السورية بقوله:” إذا ما كان قد حدث بالفعل “. من جانب آخر، لم أتمكن شخصياً من استيعاب منطق “تفادي سقوط مدنيين”، عندما لم تقتل روسيا في سوريا إلا مدنيين! ولعلم السيد الشاعر إن عتاة داعش والمتطرفين الإرهابيين الذين استجلبهم النظام لإرهاب العالم من إرهابهم، كانوا يتنقلون من جنوب سوريا إلى شمالها تحت حماية روسيا، التي تدعي أن مهمتها في سوريا هي مكافحة الإرهاب !
وإذا ما بقينا في الدور العسكري الروسي في سوريا، فإن أكثر ما يدهش الكاتب حسب قوله هو تصريح مسؤول أمريكي حول الوجود العسكري الأمريكي “المحدود” في سوريا التي يصعب أن تكون أفغانستان أو فيتنام؛ لكن المسؤول يريدها أن تتحول إلى مستنقع أفغاني للروس. وهنا يستحضر الكاتب “الكاوبوي” الأمريكي، وأوصاف الفجاجة وغياب الإنسانية والأخلاق؛ وسياسة الأرض المحروقة، وتحويل البلدان إلى مستنقعات؛ ويستنكر حديث الأمريكيين عن إعادة الإعمار. لا نختلف مع الكاتب في هجومه على أمريكا؛ ولكن لا يمكن المرافعة عن أفعال هي نسخة عن تلك التي يهاجمها وينتقدها. فإذا كانت روسيا حمت منظومة إجرامية بأربعة عشر فيتو في مجلس الأمن، وسحقت طائراتها البشر والحجر في سوريا، وتريد الآن تفصيل “حل” في سوريا على مقاس أمراضها وعًقَد منظومة الأسد؛ فهل سوء السياسة الأمريكية يبرر لها ذلك، ويجعل منها بائعة ورد وخبز في سوريا؟!
يختم الأستاذ الشاعر مقاله بإسداء النصح للسوريين “بمراجعة مواقفهم، والتفكير مليا بمنطق لا ينفصل عن الواقع…” وبرأيه: “لن يكون حل الأزمة السورية سوى على النحو الذي يقرره ويريده السوريون أنفسهم؛ ولن يتم تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254 سوى بإرادتهم الحرة وجهودهم”. أقول لصديقنا إن الذين يحتاجون إلى مراجعة مواقفهم، هم أولئك الذين يرافع عن سياساتهم، التي استبدلت علاقة إنسانية أخلاقية طبيعية محتملة مع ثلاثة وعشرين مليون سوري، بعلاقة مصلحة مع منظومة استبدادية أسبغت عليها صفة الشرعية، كي تشرعن تدخلها. أما الانفصال والانفصام عن الواقع فقد تجلى في البهلوانيات الروسية التي سحبت قدم روسيا فعلياً إلى المستنقع، الذي تحدث عنه المسؤول الأمريكي. وبخصوص ” تنفيذ القرار 2254 بالإرادة الحرة للسوريين”، فهل ترك الروس حرية إلا لمنظومة الاستبداد الأسدية، وساهموا مع تلك المنظومة بإلغاء أي حرية سورية؟! هل هذا هو المنطق الذي لا ينفصل عن الواقع، أم أنه الانسجام بين دكتاتوريتين؟ لا بد للسيد الشاعر أن يتذكر أنه ليس أمريكا فقط من يريد لروسيا أن تسقط في مستنقع الدماء والخراب السورية. هناك إسرائيل وتركيا والعرب وأوروبا – والأكثر من كل هؤلاء إيران و نظام الأسد. وحده الشعب السوري مَن يريد الخلاص من الجميع دون مستنقعات.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت