في العاشر من حزيران ستمر الذكرى العشرون لموت حافظ الأسد، وهي مدة كافية ليصبح في ذمة الماضي لو لم يكن حضوره اللاحق على الوفاة بالقوة التي شهدناها. الأب القائد، بلقب صار الأكثر استخداماً في السنوات الأخيرة من حكمه، أمعن به قتلاً وتنكيلاً منذ آذار 2011 ملايينٌ من أبنائه المفترضين، بينما أمعن أبناؤه المخلصون قتلاً وتنكيلاً وتهجيراً بأولئك الذين تجرأوا على أبيهم. وفق التعبير المجازي السابق، نجح أبناء الأسد المخلصون في قتل “أشقائهم” أكثر مما نجحوا في الحفاظ على تركة أبيهم، وفشل قسم من الذين قتلوه في التخلص نهائياً من خصال أورثهم إياه.
مع انطلاق الثورة، كان يمكن بوفرة مشاهدة تلك اللافتات التي تعتبر الوقوف مع بشار ولاءً لأبيه، ما يضمر عدم الاعتداد به شخصياً كوريث. أيضاً شاع بين الموالين تهديد الثائرين ببطش أخيه ماهر الذي كان يُقال أنه “لم يشلح البيجاما بعد”، ولصورة ماهر مستويان، أولهما التعبير عن عدم الاقتناع بكفاءة بشار، وثانيهما استلهام صورة عمه رفعت الأسد؛ الصورة الدموية المتممة لحنكة حافظ الأسد المزعومة. منذ ذلك التاريخ لم تكن موالاة الأسدية لتعني موالاة بشار، وكأن قدره كرئيس بالمصادفة “بعد وفاة الوريث الأول باسل” لن يتوقف عن ملاحقته.
لم يشلح ماهر البيجاما على نحو استعراضي يلبي تطلعات المخيال الموالي، واجتهد بشار لإثبات تفوقه الدموي على أبيه وعمه، وتفوقه الكيماوي على صدام حسين. إلا أن مثابرة الأخير الدموية ترافقت مع افتقاره إلى الكاريزما التي أفلح أبوه في صنعها خلال ثلاثة عقود من حكمه، خاصة مع نسيان الركاكة الشخصية التي ظهر بها الأخير في إطلالاته أثناء المواجهة مع الإخوان المسلمين. كان بشار “بالتواطؤ مع الموالين” قد استرجع صورة تلك المواجهة بتصوير الثائرين إرهابيين متطرفين تكفيريين، وكرر كأبيه الحديث عن المؤامرة الكونية التي تستهدفه، لكن استحضار شبح الأب بموجب المقارنة لن يكون لصالحه شخصياً بما أن النصر القديم لن يتجدد.
النصر الذي حققه بشار لم يأتِ بدعم من الإيرانيين ثم الروس، لقد أتى الإيراني ثم الروسي لتحقيقه، من دون أن نغفل موافقة دولية على قدومهما. وجود قوتي احتلال يعني في ما يعنيه الانقضاض على الأسدية باعتبارها قوة ذات استقلالية، وذات علاقة ندية إلى حد ما مع الخارج. في ما سبق لم يختبر الموالون انقسامهم بين طرفين خارجيين، وحتى انقسامهم القديم بين حافظ ورفعت جرى احتواؤه كحدث طارئ وعابر ضمن الأسرة الواحدة. الانتقال من وهم انتظار رفعت كوريث محتمل إلى القبول بالوريث الصاعد باسل كان سلساً جداً، بخلاف الانتقال من توريث باسل إلى توريث بشار الذي لم يحظَ بالقدر ذاته من السهولة ومن رضا الموالين.
باسل المثَل وبشار الأمل، هكذا قدّمت الدعاية الأسدية الانتقال بين مشروعي التوريث، وبينما المثَل والقدوة يحيلان إلى اكتمال الصفات تبقى إحالة الأمل غامضة وغير مضمونة. إثر استلامه السلطة رسمياً، سيسعى بشار إلى إظهار تمايزه عن الأب، وستنطلي خدعة انفتاحه وستريح سوريين هم بغالبيتهم من خارج ما يُسمى البنية الصلبة للأسدية؛ ذلك جعله لفترة قصيرة يبدو أقل أسدية مما ينبغي، وبقراره الشخصي لا بقلة حيلته وقلة كفاءته.
في لبنان سجّل بشار أول فشل مدوّ، فهو لم يتمكن من احتواء تداعيات اغتيال الحريري على نحو ما فعل الأب باغتيال كمال جنبلاط. العبرة كانت في اضطراره إلى ذلك الانسحاب المذل، ومن بعده الاستقواء بحزب الله بعد حقبة من تنمر الأسدية على اللبنانيين بلا استثناء. كان حافظ الأسد سيلملم آثار الاغتيال بحنكته ودهائه، وكان سيحتوي الثورة عليه بالقوة والدهاء معاً؛ هذا لسان حال الموالي الأسدي الذي يرى إرث أبيه المعنوي يتبدد على يد إبنه الحقيقي.
لا يضع الموالي نفسه أمام سؤال: إذا كان حافظ مكان بشار، ما الذي سيفعله؟ ففي عقله أنه قادر بالتأكيد على إجتراح الحلول، وهو يعفي نفسه من السؤال لأنه لا يستطيع وضعها مكان من يُفترض به وحده الإجابة. عقلية الإنكار لديه كانت تمنعه طوال الوقت من الاعتراف بانتهاء الأسدية التي يعرفها مع موت مهندسها ومؤسسها، وتمنعه من رؤية الظروف التي ساعدت على تأسيس تلك الحقبة من دون أوهام مفرطة حول حنكة المؤسس وألمعيته.
عاش الموالي، في العقد الأخير وبما يفقأ العين، انتهاء أكذوبة الدولة وانكشافها عن مجموعات من شبيحة القتل والسلب. أولئك الشبيحة الذين كانوا رمزاً للحرب على سوريين آخرين كانوا في الوقت نفسه المثال على تحلل دولته، هو الذي يروق له تصوير الدولة عليّةً فوق “الرعية”، يعلوها صانعها الأسد الأب. هي الدولة التي فيها شيء من رعاية “حالية أو مؤجلة” وإن قست، وفيها ادعاء الفضائل وإن تناهبها الأوغاد والسفلة. لقد أسفرت الدولة عن وحشيتها في غياب ذلك الأب الضامن، وتبخرت الوعود لأبنائها البارين الذين سبق لهم أن رأوا تبخرها من قبل، ولم يفقدوا الأمل كما يفقدونه اليوم.
أكثر من أي وقت مضى، يدرك الموالي انتهاء دولته بعد دفعه أثماناً باهظة من أجل بقائها، والنصر على سوريين آخرين لا يعني سوى دفع الثمن الاقتصادي الباهظ بعد نظيره من الدماء. في آخر النفق، ليس هناك من حافظ الأسد يلوّح له بيده ويطمئنه، صار من المستحيل تخيّل وجوده أو إغماض العينين والحلم بعودة زمنه. من السهل الآن أن يُشتم الوريث في بيئات لم يكن فيها أحد يتجرأ على شتم أبيه، أو على مجرد التفكير بذلك، وإذا لم تكن فكرة التغيير السياسي واردة لما فيها من مشقة نفسية فإن تمني الخلاص على أي نحو كان بات وارداً جداً.
ينتظر الموالي، مثلما ينتظر سوريون آخرون في الداخل والخارج، المصير الذي ستقرره القوى الدولية لآل الأسد بقاءً أو تنحية. ما يميز الموالي أنه أصر على الاحتفاظ بجثة الأسدية حتى شهد تفسخها أمام عينيه، ولم يقتنع بأن حافظ الأسد قد مات حقاً، ولم يقتنع لاحقاً بأن هذا المآل ليس بمثابة إرث بدّده أبناؤه بسبب قلة الكفاءة، وإنما أيضاً لأن هذا المآل كامن في ما هندسه الأب بنفسه. بعد عشرين عاماً من موته، لا يزال الاختبار الأصعب للموالي هو التجرؤ على دفن حافظ الأسد.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت