يتجدد الصراع المناطقي الطائفي اللبناني في هذه الأيام على أزمة الكهرباء. وهي أزمة ببعدين، بعد شعبي يأخذ طابعاً إفرازياً جديداً، وطابعاً سياسياً يرتبط به الأول على خلفية مشاريع الفرز المناطقي والطائفي لبنانياً، من خلال الخلاف بين القوى السياسية الطائفية المتصارعة حول جغرافية إنشاء معامل للكهرباء. كل طائفة تريد معملاً في منطقة نفوذها ووجودها. المشكلة على تفاهتها تتسم بأبعاد خطرة، لا تنفصل عن مشكلة استراتيجية تعانيها الدول الوطنية ببناها في منطقة الشرق الأوسط، وتحديداً في العراق، سوريا ولبنان. ما يسري في لبنان سيتعمم في سوريا خصوصاً مع الإشكال العلوي-العلوي المتفجر في ساحة النظام السوري من خلال نموذج رامي مخلوف.
تؤسس هذه الخلافات على قطاعات منتجة أو فيها مردود ربحي إلى إنشاء فيدراليات اقتصادية تتوازى مع فيدراليات سياسية وجغرافية تم تكريسها عسكرياً. وكل ذلك يدلّ على حجم الانهيار الذي يضرب الدول، والانحدار الذي تعيشه المجتمعات. الأزمة في هذه الدول تستمد وقودها من انحدار عالمي هائل في شتى المجالات، وفي مثل هذه الحالات يصبح ملف تفصيلي كملف الكهرباء يوازي ملفاً أكثر استراتيجية. المسألة تطرح سؤالاً جوهرياً ومفصلياً حول الانحدار في مستوى التفكير السياسي. وهو نتيجة لسقوط صراع الأفكار مقابل تنامي مفهوم الشعبوية أو العصبية.
يعيش لبنان أزمة وجودية بعد 100 سنة على نشوئه. أزمة تختلف جذرياً عن ظروف الحرب الأهلية، التي أدت إلى الفصل بين حقبتين أساسيتين في تاريخه. يتغنى اللبنانيون في هذه الأيام بأن اشتعال المنطقة من حولهم لم ينعكس على أراضيهم ولم تشتعل الجبهات، لكن لبنان يمرّ بما هو أسوأ من الحرب، وتنعكس عليه مباشرة نتائج حروب محيطة. رفض الحرب ومنتجاتها، يؤدي في مرات كثيرة إلى رجعية نوستالجية، ترتبط بتمجيد لبنان القديم، كإطلاق شعارات أن كل ما كان قبل الحرب جميل. لا يمكن قراءة هذا التحول بواقعية دون النظر إلى محيط لبنان، والدول التي تنعدم فيها السياسة. مقابل صعود نماذج جديدة، طباعها شعبوي، مالي، طائفي، مذهبي.
في هذه المنطقة من العالم، تترشح المجتمعات نحو الذهاب إلى الشعبوية أكثر فأكثر، بسبب فقدان أي استقرار سياسي. وهجها يزداد بعد انسداد الأفق السياسية فيزداد التعويل على أسباب خارقة لمعالجة المشكلات. وهي تستمد نبرتها المرتفعة من مجالات مختلفة، وهي نتيجة عدم القبول بالرأسمالية وبالسياسة القائمة. بينما في المقابل، فكلما استقرت الحياة السياسية، كان باستطاعتها الإسهام في تراجع الشعبوية، التي تنمو من اليأس المجتمعي الذي لا يجد نفسه قادراً على تغيير واقعه، وبأنه محكوم بالفقر، بينما التغير السياسي لا يؤدي إلى حلول جديدة، فتلجأ إلى حلول وهمية تعزز مفهوم القائد المخلص.
في منطقة الشرق الأوسط يتسبب بالانحدار السياسي ثلاثي العسكر والأمن والدين، فالسياسة التي تنتهج من قبل هذه القوى تنتج تفاهة سياسية، وفوق هذا الثلاثي أساس قائم يرتكز على عنصر المال والدورة المالية التي يحتاجها. ما يؤدي إلى ارتباط السياسة برجال الأعمال الذين غالباً ما يكونون حاكمين أكثر من السياسيين. ويصبح هؤلاء التجار هم صانعوا الأحداث والتطورات. فيتحول التافه إلى بطل قومي.
وفي هذه الحالة أصبحت التفاهة معياراً في السياسة. من يصنع التفاهة اليوم، هي الخرافات التي تحولت إلى حقائق، من السوشال ميديا إلى المجتمع المدني، ومفهوم الان جي اوز. وتهدف إلى ضرب العمل الحزبي وتمزيقه. وتصنع بدائل عن المرتكزات الأساسية للسياسة، فيحل المجتمع الأهلي كالقبائل والعائلات والعشائر بدلاً من الأحزاب والتي يفترض أن تمثل أرقى مرتبات العمل السياسي. كان هدف الرأسمالية المتوحشة إنتاج هذا المجتمع المدني لضرب مفهوم العمل الحزبي والعمل النقابي. فأصبحت جماعات المجتمع المدني هي التي تطالب بالمطالب النقابية، وتم تقسيم المطالب التي يفترض أن تكون موحدة حزبياً، من مطالب سياسية، وحقوق الإنسان والبيئة، وحقوق النساء والقضايا العمالية والاجتماعية، هذه كلها يفترض أن تكون ضمن باكورة واحدة اسمها العمل الحزبي، بينما تم تشتيتها وفرزها وتقسيمها لتصبح جمعيات متفرقة، غير ذي قدرات كبيرة في التأثير والتغيير.
وأسوأ ما حلّ على منطقة الشرق الأوسط هو الإطاحة بالعمل الحزبي لصالح ما يسمى بالعمل العشائري والقبلي أو الطائفي والديني، والذي أيضاً أخذ طابعاً عائلياً في السياسة، كعائلة الأسد، صدام حسين، حسني مبارك، القذافي، وصولاً إلى الحوثيين، وفي دول الخليج. والأخطر من ربط القضايا السياسية بالعسكر والأمن، هو ربطها بالدين، والذي يؤدي إلى تتفيه السياسة ووسم الخيارات فيها بالقداسة أو بالكفر والإلحاد، وهذه تنطلق من خلفية عدم الخروج عن طاعة الحاكم، وتكفير كل ما هو مخالف للمنطق السائد. وهذه تهدف إلى تضييع الرأي العام عن قضايا أساسية. وتلعب المؤسسات الدينية دوراً بارزاً في هذا المجال، يؤدي إلى انتصار الفكر الغيبي الذي هو بحد ذاته انتصار للتفاهة، وتحويل المعارك السياسية العادية إلى معارك إلهية، لجعل الناس في مرتبة لا تسمح لهم بمجرد التفكير بالقدرة على التغيير.
أنتج ذلك شكاً وعدم ثقة في كل ما هو قائم من أنظمة ومعايير حكمية، فبرزت ظاهرة ارتكاس، نحو هويات جزئية ماضوية، ما قبل الهويات المصنوعة، كالعودة إلى العائلية أو القبلية أو الطائفية، والتي تقوم على مفهوم العصبية. وهي تدل على الانحطاط وعلى أزمة تكوين الدول الوطنية أو الوحدة الاجتماعية، فلا تسمح بنشوء ثقافة وطنية.
تعيش المجتمعات العربية، في ظل أنظمة، فرضت عليها فرضاً ولذلك الثقة مفقودة بها، ولا بد للشعوب أن تنتج أنظمتها السياسية المعبرة عن مصالحها وعن مستقبلها، الواقع المعقد يؤدي إلى الذهاب أكثر نحو الدين والتدين، والذي يأتي كنتيجة الشعور بالخواء وعدم كفاية العقائد الوضعية والأفكار السياسية، لكن المشكلة الأعمق أنه حتى هذا التدين لا يشكل جواباً كافياً لهواجس الناس، ولا يمنحهم الطمأنينة ولا أي معنى للحياة الحديثة، لا بل على العكس يظهر أنه في مأزق سحيق أمام التطور البشري، خاصة أن اللاهوت والفقه لم ينسجما مع التحولات العميقة في حياة البشر وعصريتها، وبعض مظاهر التدين تؤشر إلى انسحاب من الواقع ولا تقدم أجوبة حوله.
هذا المخاض بين حدّي الفوضى والانتظام لمجتمعاتنا، يفتح الباب على توقع المزيد من التصدعات في ظل انكفاء وانهيار نموذج الدولة الوطنية التي باتت أمام أسئلة وجودها، وإزاء صعود نماذج جديدة مغايرة للأحزاب التقليدية، يبدو فيها المجتمع المدني بتجلياته الراهنة عاجزا عن أن يشكل البديل الناظم، والنموذج العصبوي الديني فاقم من التصدعات المجتمعية وطالما أن التفتت والتحلل يشكلان السمتين البارزتين اليوم، فإن ما تنتظره مجتمعاتنا هو المزيد من الشيء نفسه، أي المزيد من انكفاء السياسة وتصدع المجتمعات لصالح الشعبوية والفئوية والطائفية، دورة الخراب تدور، ودورة البناء لم تبدأ بعد.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت