الثقة القصوى ، التي يؤكدها السفير ، لم يعرضها للتشكيك أكثر مما قام به الكرملين نفسه في أواسط نيسان/أبريل المنصرم ، حين اكتشفت فجأة مواقع إعلام “طباخه” يفغيني بريغوجين فساد النظام السوري ، وعجزه عن إدارة المناطق الواقعة تحت سيطرته . صحيح أن الكرملين كان قد نأى بنفسه حينها عن انتقادات مواقع إعلام بريغوجين تلك ، ولم يؤكدها أو ينفها ، إلا أن ذلك لم يقنع أحداً بأن تلك الإنتقادات لم تكن بوحي من الكرملين نفسه ، الذي تربطه علاقة وثيقة ب”سيد” المرتزقة الروس “الطباخ” بريغوجين . وبريغوجين ذاك كان نفسه قد عاد عن انتقاداته تلك ، وظهر في دمشق واجتمع مع رئيس ديوان الرئاسة السورية منصور عزام وعدد من الوزراء السوريين ، كما ذكر موقع “Rosbalt” الروسي في 4 من الشهر الجاري ، ونشرت وكالة الأنباء الفدرالية العائدة له في 6 من الشهر عينه مقالة مطولة بعنوان “الأسد يجابه بنجاح عقوبات الولايات المتحدة خلال تطويره إقتصاد سوريا خلافاً ل”قانون قيصر”” . فهل اقتنع الكرملين برأي بريغوجين “المستجد” هذا ، أم أن “قانون قيصر” لم يترك له خياراً آخر غير الإصطفاف إلى جانب النظام السوري في “النضال ضد العدو المشترك ؟
موقع “news.ru” الإلكتروني الروسي تحدث بصراحة عن الموقع ، الذي يُلزم “قانون قيصر” الكرملين التموضع به إلى جانب النظام السوري والدفاع المستميت عنه ، بل ويشتبه بمده بالدولار الأميركي ، مما ساهم في انتعاش الليرة السورية مؤقتا ، قبل عودتها مجدداً إلى الإنخفاض . فقد كتب الموقع في 10 الشهر الجاري مقالة بعنوان “روسيا سوف يلزمونها بدفع ثمن خطايا النخبة السورية” ، أرفقه بعنوان ثانوي قال فيه “ينتظرون من موسكو إجراءات لحماية دمشق من “قانون قيصر” الأميركي”.
وقال الموقع بأنهم يشتبهون بروسيا باتخاذها إجراءات لدعم الليرة السورية ، التي انخفضت إنخفاضا شديداً بسبب اقتراب فرض حزمة جديدة من العقوبات الأميركية تحت اسم “قانون قيصر”، الذي وصفته الحكومة السورية بالحرب الإقتصادية عليها . ومن المحتمل أن تضطر موسكو إلى إعادة صياغة تعاونها مع دمشق على نحو يجنبها جميع المخاطر . وقال بأن المحللين قد لاحظوا ، أنه بعد الإنخفاض الشديد للعملة السورية ، عادت وتحسنت قليلاً، إذ استعادت حوالي 20% من قيمتها تجاه الدولار خلال يوم واحد ، مما جعل هؤلاء يفترضون بأن الجانب الروسي لجأ إلى آليات تثبيت قيمتها ، كأن يعمد إلى مد المصرف المركزي السوري بالعملة الصعبة . وإذا ما صح ذلك ، فهذا يعني أن موسكو تحاول إعادة تنسيق سياستها مع مفاعيل “قانون قيصر” ، الذي أصبح أحد عوامل انهيار الليرة إلى جانب مضاربات الصرافين المحليين وشركات رامي مخلوف .
ويقول الموقع أن دمشق تستخدم الخطاب الإيراني في مواجهة “قانون قيصر”، إذ أعلنت الخارجية السورية أن الولايات المتحدة تدوس علناً حقوق الإنسان ومنظومة الحقوق الدولية ، وتواصل انتهاج سياسة فرض العقوبات من جانب واحد. لكن مهما كان الخطاب ، فمن الصعب التشكيك بفعالية العقوبات الأميركية الجديدة المترافقة مع الأزمة اللبنانية ، التي خفضت قيمة ودائع السوريين، ومع الإنهيار الإقتصادي العام بسبب وباء الكورونا والخلافات داخل السلطة السورية.
وكما هو متوقع ، فإن “قانون قيصر” سوف يطال روسيا ، التي تدعم الأسد ، سواء عبر الدولة أو عبر البزنس الخاص . وإذا ما ثبتت صحة التدابير الروسية لدعم الليرة السورية ، فإن هذا يعني أن الجانب الروسي مستعد للمضي إلى الآخر في خوض الصراع من أجل الوضع الإقتصادي في سوريا . لكن السؤال هو عما تكلفه لروسيا هذه “الإستشهادية الإقتصادية” في سبيل الحكومة البعثية ، التي تواصل إنفاق الأموال على العمليات الحربية ، بدلاً من شراء القمح والشعير ، ودعم الخبز ، الذي تعاني من نقصه مناطق عديدة تقع تحت سلطة الأسد ، لكنه من المستبعد توقع إجابة نزيهة على هذا السؤال ، وفق الموقع.
“قانون قيصر” الذي يثير رعباً حقيقياً في نفوس الأسديين في إيران ولبنان وسوريا ، يبدأ حيز تطبيقه الأربعاء في 17 حزيران/يونيو ، ولمدة خمس سنوات قابلة للإختصار إذا نفذ الأسديون والمعنيون الأجانب شروطه ، لم يعد مادة للنقاش برأي الكرملين . فالقانون وقعه الرئيس الأميركي نهاية السنة الماضية ، ولم يعد متاحاً سوى الردح حول “استهدافه الشعب السوري” ، كما يردد النظام السوري والإيرانيون ، ويكرر سفير الكرملين في دمشق ، سيما أن مبعوث واشنطن إلى دمشق جيمس جيفري “يطمئن” موسكو بمواصلة مفاوضاته مع الكرملين حول التسوية السلمية للأزمة السورية ، وكانت آخر جلساتها عبر الهاتف الخميس الماضي في 11 من الجاري ، بين جيفري ونائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فيرشينن.
إن ما يقض مضاجع الكرملين حالياً هي الوثيقة ، التي أعدها الجمهوريون في الكونغرس الأميركي بعنوان “تعزيز اميركا ومناهضة التهديدات الدولية” ، التي تطالب بفرض “عقوبات من الجحيم” على كل من روسيا والصين وإيران والمنظمات الإرهابية . تتضمن الوثيقة حوالي 140 إقتراحاً بالعقوبات “ضد أكثر أعداء أميركا الدوليين عدوانية” ، حسب صحيفة “NOVAYA” الروسية المعارضة ، وتهدد روسيا بتسميتها “دولة ممولة للإرهاب” ، وبفصلها عن النظام المصرفي العالمي SWIFT . يرفض ديمتري بيسكوف الناطق باسم الرئيس الروسي التصديق بأن العقوبات المقترحة بشأن روسيا سوف يتم تنفيذها ، ويأمل بأن “تبقى هذه المخططات على مستوى التصريحات ، ولن تتحقق بأي شكل من الأشكال” ، ويستطرد بالقول “بالطبع، لا يسعنا إلا أن نأسف للإندفاعات الجديدة ، التي يحاول بعض الأشخاص إعطاءها الطابع العام للسياسة الأميركية … وهذا لا يساعد ، بالتأكيد ، على تطبيع العلاقات الثنائية” ، حسب “تاس” .
وينقل موقع “GAZETA.ru” الإلكتروني الروسي الموالي للكرملين عن “تاس” في عرضها للوثيقة ، قولها بانها تتضمن قيوداً على مشاريع النفط والغاز، وعلى الدين السيادي الروسي، وعلى”الأشخاص الموالين لروسيا” في البلدان الأخرى. لكن أخطر ما تدعو إليه الوثيقة ، برأي الموقع، هو دعوتها “لوضع استراتيجية للتعامل مع الشعب الروسي مباشرة ودعم تطلعاته إلى الديموقراطية وحقوق الإنسان” ، أي إلى عدم الإعتراف بشرعية تمثيل الكرملين للشعب الروسي ، وتخطي سلطته .
هذا ما يخشاه الكرملين ، ويرفض تصديق تحققه في الواقع ، وليس “قانون قيصر” ، الذي أصبح وراءه ، ولم تعد تفيده مناقشته ، وإن كان يدرك أنه ليس بمنأى عن مفاعيله ، وخصوصاً عسكرييه وسلاحهم الذي يشارك النظام السوري في جرائمه ضد السوريين.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت