قضت محكمة في باريس، يوم الأربعاء، بسجن رفعت الأسد أربع سنوات، بعد تجريمه بتبييض الأموال والتهرب الضريبي، واختلاس أموال تعود للحكومة السورية. الخبر حمل العديد من المفارقات، فها هو رفعت يُحكم أخيراً في قضية لا تُقارن بالجرائم الوحشية المنسوبة إليه عندما كان الرجل الثاني في سلطة الأسد، وها هو أيضاً يُحكم في فرنسا التي استقبلته ضمن تسوية خروجه من سوريا، بتأخير دام نحو ثلاثة عقود ونصف تمتع خلالها بوضعية الزائر الكبير، ومن ذلك حصوله على إقامة للحاشية الكبيرة التي رافقته في المرحلة الأولى من خروجه.
الانتقاد الوجيه الذي لا ينبغي إعفاء الحكومة الفرنسية منه، لا القضاء الفرنسي، هو معرفتها الجيدة بتاريخ رفعت، وعدم اكتراثها بجرائمه ضد السوريين طيلة العقود الماضية. فالحكومة الفرنسية كانت مُطالبة أخلاقياً بعدم إيوائه على أراضيها، بخلاف ما هو معروف عن تسهيل ذلك، مع علمنا بأن منح الإقامة على الأراضي الفرنسية لأي سوري لا يحدث تلقائياً، وإذا لم تكن للمحاكم الفرنسية ولاية في ذلك الزمن على الجرائم المرتكبة خارج الحدود فهذا لا يعفي الحكومة ومخابراتها من المسؤولية الأدبية.
تطورت ولاية القضاء الفرنسي، لتشمل جرائم إبادة أو جرائم ضد الإنسانية، ففي مطلع عام 2010 مثلاً أصدرت محكمة الاستئناف في باريس حكماً يقضي بقبول متابعة التحقيقات بأعمال خطف وتعذيب مرتكبة في كمبوديا بين عامي 1975 و1979، وهناك ما لا يقل عن 15 دعوى أخرى رُفعت أمام القضاء الفرنسي تتعلق بمجازر رواندا ويوغسلافيا. وكانت ضجة سابقة قد ثارت قبل سنوات من ذلك على خلفية نظر القضاء البلجيكي بين عامي 2011 و2009 في أربع قضايا متصلة بالإبادة الجماعية التي حدثت في رواندا عام 1994، وكذلك فعل القضاء الدانمركي بالحكم على متهم بارتكاب جرائم حرب في كرواتيا. في غضون ذلك، لم تتقدم أية جهة سورية أمام القضاء الفرنسي، أو سواه من المحاكم الأوروبية، بدعوى ضد رفعت الأسد على خلفية الجرائم التي ارتكبها عندما كان قائداً لسرايا الدفاع فضلاً عن امتيازاته السلطوية الأخرى.
على الأقل هناك قضية مجزرة سجن تدمر التي تصلح لإثارتها أمام القضاء الفرنسي، المجزرة التي سيُصادف في السابع والعشرين من هذا الشهر مرور أربعين عاماً عليها. المعلومات عن المجزرة متوافرة بعموميتها، وقد افتُضحت إثر فرار اثنين من المشاركين في التنفيذ إلى الأردن، حيث قدّما شهادة عن كيفية حصول المجزرة وصولاً إلى أسماء ورتب المشاركين فيها. القائد المباشر للعملية كان معين ناصيف، وفوق أن عملية من هذا النوع يستحيل تنفيذها بلا أمر مباشر من رفعت الأسد فإن معين ناصيف هو صهره “زوج ابنته”، وهو الذي خاطب العناصر موجِّهاً لهم قبل ركوبهم المروحيات إلى السجن، والتفاصيل الأخرى معروفة جيداً، بما فيها صرف مبلغ مئتي ليرة كمكافأة لكل عنصر من العناصر الذين ارتكبوا المجزرة. مؤسف أن أية جهة سورية لم تثر هذه القضية أمام المحاكم الأوروبية، وفي مقدمها من تمسّهم مباشرة.
سبق لقاضٍ إسباني قبل سبعة شهور أن أوصى بمحاكمة رفعت للاشتباه بتبييض أكثر من 600 مليون يورو نهبها من الخزانة العامة السورية، والخبر الأهم أن سويسرا قد تشهد أخيراً محاكمته على جرائم ارتكبها في سوريا. ورغم مجيء هذه التطورات متأخرة جداً إلا أنها لا تخلو من الإيجابيات، واحد منها فقط إيصال رسالة لمجرمي الحرب مفادها أن العدالة قد تأتي وإن تأخرت طويلاً، أما الرسالة الأهم فلا تزال تتعلق برفعت نفسه وبمكانته المعنوية لدى شريحة من أنصاره السابقين، أو من أنصار الأسدية عموماً، الشريحة التي ترى فيه منقذاً محتملاً لمأزق الأسدية الحالي.
هو “القائد” رفعت، حينما كان يستحيل على غيره نيل هذا اللقب مع وجود حافظ الأسد الذي لا يقبل بمنافس أو بصاحب لقب سواه. هو أبو دريد “إبنه البكر”، حين كان حافظ مبقياً على لقبه “أبو سليمان”، مغفلاً اسم صبيه البكر باسل ومتهرباً من التكني باسم أبيه علي. قائد “سرايا الدفاع” منذ كان أخوه وزيراً للدفاع، السرايا التي نشأت بديلاً عن الحرس القومي بهدف حماية النظام. وجود أسماء عسكرية أخرى ذات وزن لم يكن ليحول دون القناعة الصائبة بأنه الأقوى، وبأنه القوة الضاربة الموثوقة لحافظ الأسد.
قوته لم تقتصر على المجال العسكري، فمنذ النصف الثاني من السبعينات سيكون له حضور في حزب البعث، سيبرز ضمن الحزب تعبير “جماعة رفعت”، وكان أفراد جماعته يحتلون نظرياً الموقع الثاني من المسؤولية بينما يُنظر إليهم برهبة من قبل زملائهم المسؤولين. لم يغب الاعتبار الطائفي عن جماعته التي أخذت تتوسع في مجال المخابرات أيضاً، فاكتسب لدى السوريين سمعة العسكري الشرس الطائفي، حتى بالمقارنة مع شقيقه حافظ الذي اكتسب بالمقارنة معه سمعة أكثر اتزاناً. كان مستعداً عن طيب خاطر لتحمل كافة الموبقات التي تخدم حكم العائلة، والتي يتفادى الشقيق الأكبر التلوث بها علناً، ومن ذلك أسبقيته في إظهار فساده بلا حياء.
كانت الأسدية تحلّق بجناحين متباينين ظاهرياً، حافظ ورفعت، وبقدر ما كسب الأول من الوجه “القبيح” لشقيقه فإن الثاني كسب محبة عميقة لدى من يستهويه هذا النمط. إنه بخلاف مزاعم شقيقه ليس أيديولوجياً، لا قومياً ولا اشتراكياً، وجمعته المصاهرة بالملك السعودي الراحل عبدالله عندما كان العداء للخليج إثباتاً للمبدئية الحزبية. شغفه بالنساء وتعدد زيجاته ملمح آخر يستقطب أولئك الذين تجذبهم صورة الفحولة، وكذلك ما عُرف عنه من حب للسهر وشرب الكحول.
بصرف النظر عن تقييمنا، كان رفعت يكسب شعبية لدى من ترضيهم خصاله. طائفي ودموي، صفة لها مؤيدوها. فاسد وصاحب صفقات مشبوهة، هناك من يفضّل هذا على اشتراكية الفقر المزعومة لأخيه. صورة “الأزعر” هي من لحم ودم، بخلاف أخيه الذي راح يشبه المومياء. صاحب أفعال لا قرارات، على نحو إنزال مظلياته لنزع الحجاب عن النساء في شوارع دمشق. هذه الصورة لم تكن لتنافس فقط صورة حافظ الأسد “التي روّجها معقّمة”، بل تنافس بلا منازع صورة أبنائه خاصة بعد مقتل باسل، فأقصى آمال بعض الأسديين كانت أن يتشبه ماهر بعمه.
صورة رفعت جعلت منه في عيون أنصاره المرشحَ الخفي لإنقاذ الأسدية، خمسة وثلاثون عاماً على ترحيله من سوريا لم تمنع استحضار اسمه مع كل مأزق تمر به، رغم مرضه وتقدّمه في السن. إقامته وتنقله بين دول أوربية لطالما عززا الانطباع بأنه مقبول غربياً، ولا يُستبعد في أية لحظة الزج به كبديل خبير قادر على ضبط النواة الصلبة لتركة أخيه. ذلك كله أصبح من الماضي مع محاكمته في فرنسا ثم في بلدان أوروبية أخرى، صورة القائد المنقذ انتهت إلى غير رجعة، وعلى أنصارها تزجية الوقت بالورثة الماثلين أمامهم مع عدم استبعادهم من مصير مشابه أو أقسى.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت