قالت سيدة روسية مُسنة لمراسلة قناة روسية محلية أثناء أسبوع الاستفتاء على التعديلات الدستورية الروسية التي بلغت 206 فقرة “كل ما لدينا هو بوتين”. اختصرت هذه السيدة معاناة أغلب الباحثين والخبراء في الشؤون الروسية وجهدهم من أجل التوصل إلى تعريف واقعي لبوتين ولروسيا في عهده، فالواضح أن الكولونيل الآتي من جهاز الاستخبارات نجح في جعل نفسه خيار الروس الأوحد.
وحدانية بوتين لم تأت من كونه استثناءً، بل أغلب القراءات تتقاطع على مسألة جوهرية، وهي أن روسيا منذ سقوط الاتحاد السوفياتي تعاني من مرحلة استثنائية طويلة، لم تعثر فيها حتى الآن على تعريف نهائي للأمة والدولة والسلطة، واختصارهم الآن في فلاديمير بوتين الذي لا بديل له وعنه.
في سنواته الـ 20 السابقة، كان موقع بوتين في آلية صنع القرار الروسي صلبا وأساسيا لكنه لم يكن وحده، ومع مرحلة التعافي الاقتصادي نتيجة ارتفاع أسعار النفط حقق بوتين استقرارا سياسيا واقتصاديا مكّنه من ترويض الشارع واحتكار السلطة وتقليص دور الأطراف الأخرى داخل التركيبة الحاكمة، والإلغاء التدريجي لمنافسيه المحتملين، كما قطع الطريق على الجميع ليس لتهيئة البديل فقط بل حتى في العثور على الرجل الثاني في هيكلية النظام.
الأخطر في المعضلة الروسية أن بوتين الذي سيستمر في السلطة إلى عام 2036 لن يسمح مجددا لمراكز القوة التفكير بالبدائل، وسيحولها إلى جهاز إداري، لا يختلف في وظيفته عن المؤسسات الحزبية في العهد الستاليني، التي استخدمت للتحكم بالوعي الجماعي الروسي، ووجهته لصالح الزعيم الأوحد للأمة والدولة والثورة. بوتين كان واضحا جدا في مشروعه حين اعترف في آخر مقابلة تلفزيونية بثت في 21 يونيو عما يخطط له بعد الاستفتاء بقوله “إن تعديل “التصفير” كان وسيلة لوقف النُخب التي تركز على من قد يكون خليفة للرئيس، وبعد التعديل، يجب أن تواصل النخبة وظيفتها”.
إصرار بوتين على إجراء الاستفتاء وبهذه الطريقة الخارجة عن المألوف، والتي سادها شوائب كثيرة تؤمن مبررات الطعن بنزاهته، خصوصا أن الاستفتاء وشكله وطريقة المشاركة فيه كان أشبه بعمل جرمي، هُرِّب ليلا تحت جناح جائحة وبائية من أجل أهداف سياسية، تتمثل بحاجة الرئيس إلى تفويض شعبي لمرحلة حكمه المقبلة، يحتاج خلالها إلى وضع الكثير من الخطوط الحمراء خصوصا بين المتنازعين على وراثته.
تحت ذريعة تفويض الأغلبية المطلقة له في الاستمرار بالسلطة، سيعيد بوتين ضبط صراعات النظام الداخلية بشروطه، وهذا ما أشار إليه التقرير الأخير لمعهد كارنيغي للسلام في موسكو بأن “هذا الخوف من أن النخب ستبدأ في البحث عن خليفة بدلا من العمل كالمعتاد، يفسر رغبة بوتين في إعادة تكوين علاقته معهم، إن خطته للحصول على ختم موافقة الناس تكون عدم ثقته المتزايدة في المؤسسة وأي حاكم يبني سلطته إما على عقد مع الناس، مما يسمح لهم بفرض قراراتهم على النخبة، أو على عقد مع النخبة، مما يساعدهم على جعل الناس في صفه”.
في نزعته الأخيرة تجاه الهوية، يعيد فلاديمير الصيغة الأرثوذكسية المحافظة لروسيا، فهو مرر بقاءه الطويل في السلطة، وأُعطى سلطته شرعية روحية من خلال فرض الإيمان بالله دستوريا، وذلك لا يختلف عن المشروعية السماوية التي حاول القيصر الروسي نيكولاي الثاني استخدامها من أجل انتزاع تفويض من الأمة لتعزيز دعائم حكمه على اعتبار أن سلطة القياصرة إلهية. والربط ما بين الأرض “الدولة” والأرثوذكسية كعقيدة، وهوية إمبراطورية، روج لها أحد أشهر النبلاء الروس الأمير سيرجي أوفاروف والتي عرفت بثالثوث الإمبراطورية المقدس القائم على “الأرثوذكسية، الاستبداد، الهوية”.
وعليه، تكمُن رغبة فلاديمير بوتين في تأمين سنوات رئاسية مقبلة أكثر استقرارا بعدما استهلك كافة إمكانيات روسيا السياسية والاقتصادية والاستراتيجية من أجل تعزيز شعبيته وتمتين سلطته، لكنه سيواجه حتما تحديات كبيرة وصعبة في المستقبل القريب، داخلية وخارجية، بعدما شارفت مكاسب السنوات الماضية على نهايتها، ولا يبدو في الأفق انفراجات اقتصادية واجتماعية تطمئن الروس، حيث تسود التوقعات الضبابية التي ستفضي دون شك إلى انتكاسات كبيرة، حينها لن يحمي الاستفتاء شرعيته لا من الشارع المُحبط ولا من النُخب المتصارعة التي تذكر وتتذكر أن استفتاء مارس 1991 لم يُنقذ الاتحاد السوفياتي من السقوط.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت