في تفاقم الجحيم السوري

يؤكد الوضع السوري ما قد يكون قاعدة عامة، وهي أن غياب الاحتمالات الجيدة يفتح تلقائياً على الاحتمالات الأسوأ. وهكذا، مع توالي الانحدار، ما كان يعتبر الأسوأ قبل حين قد يُرفع إلى مرتبة الأقل سوءاً. المخيف في هذا المسار أن المدى المنظور ينذر باستمراره، خاصة في الأشهر المقبلة التي من المرجح أن تشهد تفاقم الجحيم السوري إلى حد كان يصعب تخيله حتى قبل أشهر قليلة. واحد من الأمثلة شهدناه قبل مدة من انهيار الليرة السورية، ما يؤكد قاعدة الاحتمالات السيئة أن سعر صرفها قد تحسن مع استمرار التراجع الحاد في مستوى المعيشة. فضلاً عن الإجراءات القسرية التي اتخذتها سلطة الأسد وساهمت في رفع سعر الصرف، يشير الأخير إلى انخفاض حاد في الطلب على الدولار رغم الحاجة الحالية إلى الأخير لاستيراد السلع الأساسية، أي أن الأسوأ ليس ارتفاع سعر صرف الدولار وإنما انخفاض الطلب عليه بسبب التدني المريع في الاستهلاك.

في الأيام الأخيرة لم يعد تفشي كورونا احتمالاً مفزعاً، لقد أصبح واقعاً يصعب إخفاؤه، ومن مظاهره التحدث عنه علناً في صفحات موالية على وسائل التواصل الاجتماعي، بل نقل رسائل عن الأطباء تنصح بعدم ذهاب المصابين إلى المستشفيات لأن الأخيرة غير قادرة على تقديم شيء لهم سوى العدوى إن لم يكونوا مصابين حقاً. أرقام الإصابات التي صارت تعلنها سلطة الأسد لا تواكب ما يحدث، وهي محكومة بما هو معروف عنها من كذب، ومحكومة أيضاً بعجزها عن إجراء الفحوص وتقديم الحد الأدنى من الرعاية الطبية ضمن ما تبقى لديها من منشآت بعد أن تولت قواتها تدمير نسبة معتبرة منها.

لقد أدى تفشي الفيروس إلى تركيع دول ذات إمكانيات صحية واقتصادية لا تقارن بأطلال سوريا، وحتى الآن لا يتوفر له علاج أو لقاح، وما تفعله الأنظمة الصحية في معظم الدول هي مساعدة مناعة المصابين على المقاومة حتى الشفاء. الخصوصية السورية ليست فحسب في تدني الإمكانيات الصحية، وإنما أيضاً في آثار هذا التدني خلال السنوات الماضية، فكما نعلم نسبة كبيرة من ضحايا الفيروس هي من المصابين بأمراض أخرى، وهنا تلعب الرعاية الصحية السابقة دوراً مهماً في تقليل عدد الضحايا وهذا مفتقد في الحالة السورية حيث شهد العقد الأخير تدنياً حاداً في كل ما يتصل بالصحة العامة، ولدى كافة الشرائح العمرية.

أمر آخر أظهرته التجربة في دول أخرى “متقدمة”، هو التفشي الأكبر للفيروس لدى الشرائح الأفقر التي لم تملك مستوى جيداً من الرعاية الصحية السابقة، والتي لا تمكنها ظروفها من اتباع سبل الوقاية الموصى بها. في سوريا اليوم هناك 85% من السكان تحت خطر الفقر، أي أن السواد الأعظم منهم غير قادر على تكاليف الحد الأدنى من الوقاية. الاستهتار المعتاد بحياة السوريين قد تكون كلفته مضاعفة، فالبلد لم يلتقط أنفاسه بعد جراء النزيف البشري الهائل بين قتلى ومهجّرين، لكن لا يُتوقع إطلاقاً أن تحيد سلطة الأسد عن ذلك الاستهتار كأن تقدم الصورة الحقيقية عن الواقع وعن عجزها، أو أن تعلن البلد منكوباً وتطالب بلا شروط بمساعدات أممية.

الخبر الذي يُضاف إلى ما سبق من السوء أن القوى الكبرى ستكون خلال الأشهر القليلة المقبلة منشغلة بتحصين أوضاعها الصحية والاقتصادية، ولن تتخذ مبادرات خارجية ولو في الحد الأدنى المعتاد، ولن يكون لسوريا حضور إلا من خلال تطورات عسكرية محتملة. القوى التي لم تُظهر اكتراثاً بحيوات السوريين الذين يقصفهم الأسد، في وقت لم تكن فيه الظروف على النحو الحالي، هذه القوى لن تكترث اليوم بحيوات سوريين آخرين، وستقتصر رؤيتها للشأن السوري من زاوية الصراع الدولي والإقليمي فيها لا غير.

على صعيد متصل، قد تحتدم المواجهة الإسرائيلية-الإيرانية من البوابة السورية، فتل أبيب تسعى إلى الاستفادة القصوى من الوقت المتبقي حتى انتخابات الرئاسة الأمريكية، وطهران تتحاشى تصعيداً مباشراً من جبهة الجنوب اللبناني ربما تكون كلفته أعلى بكثير من استخدام الساحة السورية. لن تحدث مواجهة شاملة تكون قوات الأسد جزءاً منها، لكن تل أبيب أنذرت سلطة الأسد بأنها لن تبقى خارج طائلة العقاب في حال أتى الرد الإيراني من جهة الأراضي السورية. إذا تحقق هذا السيناريو فسيأتي الرعب من كافة أماكن تواجد القوات والميليشيات الإيرانية، وهي منتشرة من شمال سوريا إلى جنوبها. أية مواجهة عسكرية جديدة ستنعكس آثارها سلباً على وضع إنساني شديد الهشاشة، لكنه آخر ما يؤخذ في الحسبان من قبل كافة الأطراف المعنية.

لا تبذل موسكو جهوداً علنية لتجنب التصعيد بين حليفيها الإسرائيلي والإيراني، ولا تستغل وجودها العسكري لرسم خطوط حمراء أمام المتحاربَيْن. ما كان واضحاً خلال الأسابيع الماضية أنها أيضاً لم تعبأ بالأزمة الداخلية الخانقة لمناطق سيطرة الأسد، بعد أن وبخته على فساده بوصفه سبب الأزمة. القوة الوحيدة القادرة على فعل شيء ما لتحسين شروط الجحيم السوري غير راغبة في ذلك، وليس جديداً على السياسة الروسية هذا النوع من اللامبالاة، وقد يعززها انصراف جزء من التركيز إلى ليبيا، وجزء آخر إلى انتخابات الرئاسة الأمريكية في تشرين الثاني، وهي أقرب إلى تل أبيب بتفضيل بقاء ترامب على انتخاب الديموقراطي بايدن.

حدثان هما الأهم ينتظرهما العالم في خريف هذه السنة، صحياً توصلُ التجارب إلى إثبات فاعلية لقاح أو أكثر ضد كورورنا، وسياسياً معرفةُ المقيم الجديد في البيت الأبيض. عملياً سينقضي ما تبقى من السنة في انتظار الحصول على لقاح ناجع، مثلما ستنتظر القوى الدولية والإقليمية تنصيب الرئيس الجديد في حال فوز الديموقراطيين لتبني على ذلك سياساتها. ستكون هذه الأشهر ثقيلة جداً على العالم بأسره، وهي أثقل على السوريين مع انفتاح جحيمهم على مزيد من السوء، والتواريخ المنتظرة لن يأتي شقها السياسي بحل سحري لهم، أما الخلاص الصحي المأمول فمن المستبعد جداً أن يكون عادلاً في توقيته.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا