تتأرجح تداعيات قانون قيصر على حياة عموم السوريين، بعد توضيح الهدف العميق وراء العقوبات، والتي تجسّدت، وفق المبعوث الأميركي، جيمس جيفري، بمُحدّديْن واضحين، مزيد من إغراق الروسي في سورية، وأن الهدف ليس تغيير النظام، وإنما تغيير سلوكه، وخصوصا تجاه شعبه. ما يفضح أن الإستراتيجية الأميركية في سورية لم تتغير ولا تزال متجسّدة في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وإخراج إيران من سورية، وإنجاز تسوية سياسية وفق قرار مجلس الأمن 2254، يُضاف إليها تداعيات قيصر المأمولة أميركياً.
لا يشكل قانون قيصر عصا سحرية، ستنهي مآسي السوريين ومحنتهم التي تحوّلت إلى أقسى محن التاريخ خلال قرنٍ في البلاد العربية، وربما علينا، نحن السوريين، أن نعي جيداً أن القانون ما أُقرّ خدمة للديمقراطية وحماية للإنسانية، التي لو أرادت واشنطن حماية تلك القيم والركائز الأساسية للحياة الطبيعية، لعملت على إنهاء شلال الدم السوري منذ سنوات. ولا يزال مثالا أفغانستان والعراق ماثلين نموذجين عمّا آلت إليه نظرية الفوضى الخلاقة، وتكورت وسائل تفعيل الديمقراطية الأميركية في الشرق عبر الحرب باعتبارها وسيلة أساسية.
وما إن سئم السوريون من المدِ والجزر حول ماهية التأثير العميق والمباشر لتداعيات قانون قيصر على النظام السوري والحكومة وأركان السلطة، حتى لاحت في الأفق قضية الاتفاق النفطي بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وشركة Delta Crescent Energy LLC. ووفق مراقبين، الشركة منشأة بموجب قوانين ولاية ديلاوير، الولاية التي تتيح سرّية أسماء المتعاملين وشركاتهم الخاصة، ما يعني إمكانية وجود شخصيات سورية نافذة، سرا على رأس الشركة، لا تشملهم عقوبات قانون قيصر. وفي المجمل، تتعلق القصة بتداعيات القانون، وكيفية استفادة شرق الفرات وغربه من القطاعات الاقتصادية، وفي مقدمها الطاقة. وإذا كانت الشركة ستقوم بتطوير الحقول والاستخراج ومنح “قسد” مصفاتين، لتلبية 20% فقط من احتياجاتها كما قيل، فإن واحدا من أشكال العلاقة بين شطري الفرات سيحقق عبر التبادل التجاري، وخصوصا تصدير النفط الخام إلى غرب الفرات الذي يستورد حاجياته من الطاقة من أوكرانيا عبر تركيا، وإذا ما تم منح غرب الفرات حاجته من النفط بالمجان، أو بسعر التكلفة، فإن تطوراتٍ سياسية، وعلى مستوى العلاقات الوطنية، ستجد طريقها إلى التبلور من جديد، بعد قطيعة دامت أكثر من نصف عقد بين شرق الفرات وغربه.
لماذا هذا القانون؟ ولماذا الاتفاق النفطي؟ وإن جعلنا هذين السؤالين المدخل الأساس لهذه المقالة، توجب التنويه إلى أنه لا انتقال سياسيا واضحا في الأفق، خصوصا وأن القرار 2254 جاء بعد البندين الآخرين، القضاء على “داعش”، إخراج إيران. صحيح أن الشروط الأميركية لإيقاف تطبيق قانون قيصر هي إطلاق سراح المعتقلين، وعدم استهداف المدنيين والمنشآت الطبية والمدارس وتوفير سبل عودة المهجّرين … إلخ، ومطالبة دمشق بمحاسبة المتهمين بقتل المدنيين، فهل ستستجيب دمشق لهذا المطلب؟ لا يعتقده عاقل! لكنها كلها لن تحقق لا الإستراتيجيتين الأولى والثانية، ولن تُغرق روسيا في المياه السورية، فلِماذا ستتوقف تداعيات القانون، إن لم يُحقق المطلب والهدف. مع التشديد على أنَّ كل العقوبات لا تستطيع تغيير سلوك الأنظمة، ولنا في تجربة نظام حزب البعث العراقي خير دليل، ولن تكون العقوبات سببا لإزاحة الأنظمة.
ورُبما يمنع “قيصر” وعقد الشراكة النفطية أيَّ هجوم تركي جديد، ويُرجّح أن يُصدر النفط بعد عملية التوقيع من حقول الرميلان وما حولها إلى كُردستان العراق، ومنها إلى تركيا، على الرغم من الاعتراض التركي على عقد الشراكة للتنقيب في الرميلان، والتي تسعى تركيا للاستفادة من الطاقة والسوق في شرق الفرات، يقابله الهدوء الروسي بشأن الموضوع، يشي بحصوله على حصته في عقود التنقيب القادمة في دير الزور. ما يعني ذلك توفير خريطة جديدة للتفاعلات التجارية الحالية، ويدفع صوب تشكيل أنساق اقتصادية – سياسية جديدة، وإنْ كانت غير غائبة بشكل كلي قطعي خلال الأعوام الماضية، لكنها ستصبح واضحةً وعلنيةً ومتعدّدة المواد والسلع المتبادلة بينهما، وما سيترتب عليه من هياكل حكم سياسية جديدة، وسيعني مزيدا من التنسيق والتبادل التجاري بين غرب الفرات وشرقه، خصوصا وأن العقوبات الأميركية على إيران تمنع كُردستان العراق من التعامل التجاري معها، وربما تتجه صوب الاستفادة من أسواق شرق الفرات وغربه لاستيراد المنتجات الغذائية والزراعية وتصديرها. كما تمنع العقوبات تركيا من استيراد الغاز أو النفط من إيران. حيث تُعتبر مناطق الإدارة الذاتية بشقيها، الكُردية والعربية، مستثناةً من هذه العقوبات، وهي، مع غرب الفرات، ممنوعة من التعامل مع العمق السوري، ما يعني تكريس حالة الانقسام الجغرافي أكثر، وقطع أيّ تواصلٍ بين كامل الشريط الحدودي، وبعمق حتى دير الزور والرقة، مع باقي المحافظات السورية. وسيربك هذا المنع حسابات التجار والصناعيين في شمال غرب سورية، وسيعرقل عمل تجار الإدارة الذاتية وعمليات تصدير النفط، ما سيدفعها إلى البحث عن أسواق جديدة بديلة خارج سورية والحفاظ على نسبة الأرباح، أو إيجاد نظام تجاري بينهما كأحد الخيارات الجديدة، خصوصا وأن غرب الفرات وحتى الحدود الإدارية لمحافظة اللاذقية تضرّرت بعمق نتيجة الحملة العسكرية أخيرا على إدلب وريفها؛ لكونها تشكل سلة الاقتصاد لغرب الفرات، ففقدت عديدا من مصادرها الاقتصادية والمعيشية كمصادر للاكتفاء الذاتي والتصدير. مثل منطقة قلعة المضيق التي تضم عدة قرى، وكانت المصدر الرئيسي للأسماك، بحكم وجود المسامك الصناعية فيها، وشكلت مناطق مورك وخان شيخون مركزاً لتصدير الفستق الحلبي إلى دول عديدة، نتيجة كميات من فائض الإنتاج والحاجة، كما أن أجزاء من سهل الغاب كانت السلة الزراعية لشمال غرب سورية، وإغلاق ثلاثة معامل للصناعات الدوائية في ريف حلب الغربي.
وقد دفعت خسارة المناطق التجار إلى استيراد تلك الحاجات الأساسية من تركيا، إضافة إلى حاجتها لاستيراد اللحوم والمعلبات والبقوليات والخضرة، فإنها تستورد ألعاب الأطفال والقداحات المنزلية والإلكترونيات من الصين، وتعتمد على إيران والعراق لاستيراد التمور والجوز والمواد الغذائية، وتحتاج إلى كمياتٍ ضخمة من الوقود المنزلي وللمركبات، وحجم الضرائب والمصاريف أرهقت التجار والمواطنين على حدٍ سواء. لذا فإن التبادل التجاري بين شرق الفرات وغربه، مع تركيا وكُردستان العراق، سينشئ حالة نوعية جديدة سياسيا واقتصادياً. في المقابل، سيتمكّن غرب الفرات من تصدير الزجاج والفخار والألبسة وزيت الزيتون ونبات الشفلح (القبار) والذي يدخل في صناعة أدوية كثيرة، عدا عن الاستعمالات الصحية المتعددة.
أمام هول الفاجعة الاقتصادية المقبلة على سورية، ومنع التعامل الاقتصادي بين شرق الفرات وغربه من جهة، مع المنطقة الثالثة في سورية من جهة ثانية، حيث سيطرة النظام السوري، فإن أبرز انعكاس عقوبات قيصر والاتفاق النفطي ربما يكون مزيدا من تفكيك الأراضي السورية، وتغذية نزعات القطيعة مع باقي الأطراف، وتشكيل جغرافيا سياسية جديدة. ووفق ذلك، فإن قانون قيصر لا يمت بصلة للمعارضة السورية الرافضة كل أشكال التقسيمات الإدارية والسياسية والجغرافية، وهو ليس سوى أداة أميركية تستخدمها لهزيمة خصومها، وإنْ على حساب دماء السوريين.
وماذا لو أجبرت مكونات شرق الفرات على الخضوع للمشروع الأميركي وتشكيل كيان خاص بتلك الرقعة الجغرافية، وتحويل الحدود الأمنية الهشة إلى حدود سياسية دائمة ومستقرّة، وعلى علاقات معينة وواضحة مع إقليم كُردستان، وتركيا، هل سيبقى الكُرد المتهمين الدائمين بالانفصال، خصوصا وأن غرب الفرات أيضاً ربما يدخل في علاقات سياسية جديدة مع تركيا؟ ويبقى السؤال المستقبلي القريب: هل ستتجه أميركا إلى منع أي وسيلة اقتصادية تدّر ربحاً على خزينة دمشق من العمل ضمن شرق الفرات، كالعملة السورية في شرق الفرات، بعد دخول العملة التركية حيز الاستعمال في غرب الفرات، أو كشركات الخليوي، وغيرها؟ حينها، سيزداد الارتباط العضوي لغرب الفرات مع تركيا، وشرق الفرات مع إقليم كُردستان عبر مخدمات الخليوي في الطرفين، وإمكانية ربط العملة في شرق الفرات وغربه، مع كُردستان وتركيا.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت