تحول التدخل الدولي في سوريا إلى إحدى الأدوات التي أمدّت في عمر الصراع، فمنذ بداية الثورة ومع التدخل الإيراني والروسي لصالح النظام، جعل من عملية إسقاط النظام في سوريا مرتبطةً إلى درجة كبيرة بالملفات السياسية والعسكرية لتلك الدول، ومع ذلك وصلت الثورة إلى حدود اسقاط النظام، لتبدأ موسكو بالتدخل العسكري المباشر وبالأخص بسلاحها الجوي خلال العام 2015، بعد عامٍ من تدخل التحالف الدولي أيضاً، وبالأخص الولايات المتحدة الأمريكية في المعركة الدولية ضد “تنظيم الدولة” في سوريا والعراق.
حدثت وقتها اتصالات بين الجانبين الأمريكي والروسي، لمنع تصادم الطائرات الحربية في الأجواء السورية، وكان نتيجتها إنشاء قنوات تواصل مباشرة بين قوات الطرفين المتواجدة في سوريا، ثم تطور التفاهم لاحقاً بالإضافة إلى منع التصادم الجوي، إلى علاقة مفصلية في توزيع السيطرة والنفوذ “شرق الفرات منطقة نفوذ الولايات المتحدة، وغرب الفرات منطقة عمليات ونفوذ موسكو”.
المتغير الرئيسي في المنطقة حدث إبان العملية التركية “نبع السلام” 2019، عقب إعلان الانسحاب الأمريكي من المنطقة، وهو ما أدى لتغيير موازين القوى على الأرض بشكلٍ جذري، ومع عودة واشنطن عن الانسحاب الكُلي وتحويله إلى انسحابٍ جزئي، وإعلان ثلاثة أهدافٍ جديدة للبقاء الأمريكي: منع وصول النظام للنفط، منع تمدد إيران في المنطقة، منع عودة ظهور ” تنظيم الدولة “.
وتم تنظيم العملية عبر اتفاقيتين إحداها: بين تركيا وواشنطن، والثانية: بين موسكو وتركيا، ومع هدوء الجبهات بدأت تظهر خطوط جديدة للنفوذ، وهي شرق بلدة تل تمر وصولاً لحدود إقليم كُردستان العراق غرباً، ودير الزور شرقاً، منطقة نفوذ أمريكي مع تواجد روسي، ومنطقة غرب بلدة تل تمر وصولاً إلى منبج وعين عيسى، منطقة انتشار روسي خارج المدن.
منذ نهاية عملية “نبع السلام” بدأت المنطقة تشهد تجاذباً عسكرياً، فموسكو التي توقعت أن تسيطر على شرق الفرات بشكلٍ كامل، خابت توقعاتها، وعادت مضطرة لتقف أمام حقيقة بقاء الجيش الأمريكي، مع جملة شروطه الجديدة، وأهمها فيما يخص موسكو “منع سيطرتها وسيطرة النظام على النفط”، ما يعني استمرار تحمل العبء الاقتصادي الذي يفرضه الواقع السوري عليها، ومع تشجيع الولايات المتحدة للأطراف الكُردية للانخراط في عملية حوارية بهدف الوصول إلى اتفاقٍ لإدارة المنطقة، مما يجعله عائقاً أمام محاولات موسكو السابقة في إتمام عقد اتفاقٍ بين قوات سوريا الديمقراطية والنظام السوري، ومع تفعيل قانون “قيصر” ومباركة دوائر أمريكية للاتفاق النفطي بين شركة أمريكية وقوات “قسد” ، شهدت موسكو نفسها في واقعٍ جديد يقنن عملية إدارة النفط من قبل “قسد”، كما يمنع الأخيرة من الاستمرار في توريد النفط لدمشق في حال قامت واشنطن بتقوية قبضة العقوبات.
طبعاً لم تقف موسكو مكتوفة الأيدي ومتفرجة، وانخرطت في محاولاتٍ لتشكيل فصائل عسكرية من عشائر المنطقة، لتخلق ضغطاً شعبياً على القوات الأمريكية، إلا أنها لم تنجح حتى الآن في هذا المسعى، ومع أول محاولةٍ لجنود النظام لإعاقة دورية أمريكية وقيامهم بمغامرة إطلاق النار على الدورية، تلقى عناصر النظام رداً عنيفاً أدى لحرق نقطتهم العسكرية بشكلٍ كامل.
هذه التطورات الميدانية، بالإضافة إلى تصريحات صدرت مؤخراً من مسؤولين أمريكيين يديرون الملف السوري، كـ جيمس جيفري وجويل ريبورن أثناء تواجدهم في تركيا ووقوفهم إلى جانب أنقرة في إدلب، وما تم تداوله من خلافٍ أثناء لقاء “ريبورن” بالائتلاف الوطني السوري، حيث أبدى ريبون امتعاضاً مما وصفه “تشتيت الأولويات عند المعارضة السورية”، وبيانه بأن سياسة بلاده موجهة ضد بشار الأسد، ما دعا ممثلي الائتلاف لإعادة التذكير بالتصريحات الأمريكية السابقة حول هدف واشنطن في سوريا السابق الذي تمحور في “مواجهة تنظيم الدولة “، وما تسبب هذا التوجه في السياسة الأمريكية من تأثيرٍ سلبي على دعم المعارضة السورية في السنوات اللاحقة لعام 2015.
كل هذه العوامل تُعتبر كافية بالنسبة لروسيا الراغبة بالوصول إلى حقول النفط والسيطرة عليها، كما تحاول بشدة الوصول إلى معبر تل كوجر الذي أسقطته من “معابر الوصول الإنسانية ” في مجلس الأمن، ومحاولة السيطرة على مساحة أكبر من الحدود السورية العراقية، لما تعنيه لها من منافع اقتصادية وجيوسياسية، لتقوم برفع وتيرة إزعاجها من واشنطن في المنطقة، في وقتٍ تشهد فيها أمريكا أجواءً انتخابية متوترة بين المرشحين الجمهوري والديمقراطي، سواءً كان على صعيد الملفات المحلية، أو الدولية، ومنها الملف السوري، وكيفية إدارة ترامب لتواجد القوات الامريكية في سوريا، وهي فرصة لموسكو لتزيد حالة عدم الاستقرار لدى القوات الامريكية المتواجدة في المنطقة.
وبالرغم من وجود هذه الرغبة لدى موسكو إلا أن التصريحات التي صدرت عن رئاسة الأركان الروسية، عن أن ما تقوم به أمريكا هو خرق لاتفاقياتٍ بين الطرفين، حول كيفية إدارة المنطقة، وهذا التصريح يشير إلى وجود صيغة توافق بين الطرفين تنظم عملية انتشار قواتهم، لا بنية الدفع النهائي باتجاه الرحيل، بل لإدارة البقاء مع تخفيض سقف مخاطر الاصطدام لأدنى حدٍ ممكن.
عموماً لا يمكن الحُكم على مصير مناطق النفوذ في منطقة شرق الفرات، فالخطوات الأمريكية السياسية تعكس من زاوية وجود رغبة لدى واشنطن بتقوية الحكم المحلي في المنطقة، ومن زاوية أخرى تتوارد أنباء حول وجود رغبة أمريكية بتخفيض عدد عناصر الجيش الأمريكي في المنطقة، إلا أن الواضح من الوقائع على الأرض يعطي بعض الإشارات لحقيقة أن الانسحاب الأمريكي الشامل من المنطقة، لن يصب في خانة مصالح واشنطن الاستراتيجية، كما إن غياب العناصر الأمريكية عن بعض المناطق لا يعني بالضرورة سيطرة كاملة للنظام وموسكو، وهذا ما نلحظه في مدن الرقة، ومنبج، حيث تتواجد الشرطة الروسية خارج هذه المناطق، ولاتزال المجالس المدنية العربية المتحالفة مع واشنطن قائمة على رأس عملها، في غياب عمليات إزعاجٍ حقيقية من النظام وحلفائه.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت